الأربعاء، 9 نوفمبر 2016

الجنرال سلفستري.. القائد الذي احتل بلاد الهبط واندحر في ملحمة أنوال



  محمد عزلي


الجنرال سلفستري، مستشار الملك الإسباني ألفونسو الثالث عشر في الشؤون الحربية، لقبوه ب "الرجل الحديدي"، ليس فقط لأنه قائد عدواني وقاسي الطبع، بل لأنه نجى عدة مرات من الموت بما يشبه المعجزات، ولأنه خلد اسمه في التاريخ العسكري الإسباني بوصفه القائد الذي احتل العرائش والقصر الكبير سنة 1911، وأزاح الفرنسيين عن أصيلا سنة 1912 وفرض عليهم اقتسام المغرب وتسطير حدود المنطقة السلطانية عن الخليفية، خلد سلفستري اسمه لأنه هزم مولاي احمد الريسوني وأنهى سطوته على بلاد الهبط، قبل أن يندحر وينتحر في ملحة أنوال المجيدة أمام المجاهدين المغاربة الأبطال بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي.



·        مسار عسكري مدهش

الجنرال مانويل فرنانديز سلفستري، من مواليد مدينة إلكاني بـالقبطانية العامة في كوبا بتاريخ 16 دجنبر 1871، تزوج في سن مبكرة من إليوتيريا كيسادا سنة 1889، ثم أدخله والده العقيد فيكتور فرنانديز الأكاديمية العسكرية في طوليدو ثم أكاديمية الفرسان سنة 1891 فتخرج منها برتبة ملازم ثان في سلاح الفرسان سنة 1893.

بدأ سلفيستري الخدمة في فوج "27 مشاة ماريا كريستينا" حتى نهاية ماي 1895، وهو تاريخ انطلاقه من كوبا رفقة فوج الفرسان الاستطلاعية "تطوان"، ليصبح في 31 يونيو من نفس السنة ملازما أولا في سن 24 عاما.

في فبراير 1896 تم تعيينه في فوج مشاة الأمير، حيث عمل حتى نهاية شهر غشت 1898، وخلال هذه الفترة سطع نجمه وبرزت شجاعته ومواهبه القتالية إثر مشاركته في أكثر من 50 معركة، ليتحصل على مكافآت وتهاني من طرف حكومة بلده في عدة مناسبات.

في 8 ماي 1896، سيحدث ما يشبه المعجزة، حيث إنه شارك في قتال عنيف تعرض خلاله إلى 5 طلقات نارية مات فيها حصانه و20 جنديا من كتيبته، ووجد جسمه مكبلا في شجرة يعاني من طعون أخرى وعددها 11، كل هذا لم يكن كافيا لموته، بل جعل أسهمه تعلو أكثر خصوصا بعد زيارته من طرف الحاكم العام لكوبا فاليريانو ويلير في مستشفى مورون ومنحه إجازة استشفائية ورحلة مدفوعة الأجر مدتها حوالي 4 أشهر.

عاد سلفستري للخدمة مرة أخرى في 2 شتنبر 1896، ونجى من موت محقق مرة أخرى في حملة 13 و14 دجنبر من نفس العام، ثم سينجو أيضا من هلاك محقق بسبب مرض الملاريا في السنة الموالية 1897 التي تُوجت بترقيته إلى رتبة نقيب وهو في سن 26 عاما.

وفي 11 من يناير 1898، تلقى الرجل الحديدي طلقات نارية أخرى أصابته في رأسه وأطرافه لكنها أيضا لم تكن كافية لقتله، ومرة أخرى سيحصل إثر ذلك على ترقية في نفس اليوم برتبة قائد.

استدعي سلفستري إلى إسبانيا ونزل مدينة لاكورونيا في 29 من غشت 1898 فاستقر ب ألكالا دي هيناريس، خدم في عدة أفواج من الفرسان بمدريد وسرقسطة، ثم تزوج مرة أخرى، هذه المرة من  إلفيرا دوارتي أوتايسا التي توفيت بمدينة مليلية سنة 1907 بعدما أنجبت له ابنته إلفيرا، وولده مانويل، هذا الأخير خدم كملازم ثاني تحت قيادة والده سلفستري في معركة أنوال ومات في الحرب الأهلية سنة 1937.


سلفيستري يقود حملة عسكرية

·        سلفيستري والمغرب

انتقل سلفيستري إلى مليلية سنة 1904 رفقة سرب ألكانتارا، ودرس اللغة العربية بالمدرسة الرسمية العربية بمدينة مليلية ليحصل بها على شهادة مترجم، متفوقا على كل زملاءه في الفوج وعددهم 14.

في أواخر غشت 1908، انتقل إلى مدينة الدار البيضاء مفوضا من حكومة بلاده في مهمة تدريب الشرطة الشريفية المغربية وفقا للاتفاق المبرم مع السلطان الجديد للمملكة المغربية آنذاك المولى عبد الحفيظ، كما كُلف بقيادة القوات الإسبانية المتواجدة بالمدينة، وتمت ترقيته إلى رتبة مقدم سنة 1909.

وفي العام 1911 سيٌكلف الملك الإسباني ألفونسو 13 سلفيستري بقيادة القوات العسكرية الإسبانية بالعرائش والقصر الكبير، وهناك سيقوم بإبرام اتفاق مع مولاي أحمد الريسوني ليتقي ضرره المرتقب، ونجح في تلجيم المقاومة الغير المنظمة والفوضى الأمنية أو ما كان معروفا ب"السيبة"، وعمد إلى تسريع عملية الاجتياح العسكري، وتثبيت الحزام الدفاعي بالمنطقة، وبناء المخيمات والثكنات العسكرية بالعرائش في حي الناظور، ثم بعد ذلك في مراحل متقدمة بالمنزه وأوطو راديو وتيجيريا وبحي القصبة والأبراج العسكرية القديمة، ثم القاعدة العسكرية بالقصر الكبير ونقط الحراسة بأهم البوادي.

في 22 فبراير 1912 أصبح سلفستري عقيدا في سن الأربعين، وفي صيف نفس السنة، تحديدا يوم 17 غشت 1912، فاجئ العقيد الفرنسيين وأغار عليهم بمدينة أصيلا ليحتلها ويطردهم منها في حادثة أثارت غضب واندهاش قصر الإليزيه بباريس، لكن وبالمقابل عرفت تأييدا ومؤازرة من الريسوني الذي سمح له بالزحف العسكري بمنطقة الهبط الخاضعة لسيطرته الفعلية، وكذلك فعل كاناليخاس رئيس وزراء إسبانيا آنذاك، هذا الأخير تعرض للاغتيال في نفس السنة بالعاصمة مدريد في 12 من نونبر 1912، الشيء الذي جعل سلفستري يكرم رئيس وزراء بلده بإطلاق اسم كاناليخاس على أحد أهم شوارع مدينة العرائش "شارع الحسن الثاني حاليا".

لقد شكل هجوم سلفستري على مدينة أصيلة سببا مباشرا في عقد معاهدة تقسيم المغرب وتسطير الحدود بين إسبانيا وفرنسا على وجه السرعة قبل أن يتسبب ذلك في حرب عالمية تنتظر أبسط الأسباب لاندلاعها، خصوصا بعد مقتل كاناليخاس، وعليه وقع الطرفان يوم 27 نونبر 1912 على الخريطة الجديدة التي منحت فرنسا 415000 كلم مربع، وإسبانا 21000 كلم مربع.

في يناير 1913 تم تعيين سلفيستري قائدا عاما على العرائش ورقي إلى رتبة عميد، ومنح وسام الجدارة الحربية في 19 من يونيو 1913، وسيصبح بعدها أصغر جنرال في تاريخ المؤسسة العسكرية الإسبانية، وذلك بعد أحداث 1915 التي كان بطلها مولاي أحمد الريسوني، الأحداث التي نشب إثرها خلاف حاد بين الجنرال سلفيستري والجنرال خوسي مارينا فيغا، أسفر في الأخير عن انتقال سلفستري للعمل بجوار الملك ألفونسو الثالث عشر كمستشار في الشؤون الحربية و ذلك في 9 من يونيو 1915، وهو المنصب الذي سيستمر فيه لأربع سنوات، رقي فيها إلى رتبة لواء سنة 1918.

عانت القوات الإسبانية من الصراع القوي والمقاومة العنيفة التي أبداها مولاي أحمد الريسوني في مناطق نفوده بالشمال الغربي للمغرب، ومن أجل هذا عاد سلفيستري من جديد إلى الساحة في 23 يونيو 1919 لكن هذه المرة بصفته القائد العام لسبتة، وقد تمكن بالفعل من شن حملة شرسة وعنيفة، دامت لأزيد من 3 أشهر، هزم على إثرها مولاي احمد الريسوني في أكتوبر 1919.


 مولاي احمد الريسوني

·        ملحمة أنوال، وانتحار الجنرال

في 12 من فبراير 1920 انتقل الجنرال إلى مليلية ليصبح قائدا عاما عليها، وفي يناير 1921 بدأ الغزو المسلح للقوات العسكرية الإسبانية على منطقة الريف بغرض "التهدئة" حسب التسمية الإسبانية للحملة، والمراد منها في حقيقة الأمر القضاء على ثورة الريف بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي ذهب إلى أبعد من مجرد مقاومة للاحتلال، بل وشرع في خلق كيان ودولة مستقلة تسود منطقة الريف بأسرها.

في هذا الوقت بالذات عقد المقيم العام الجنرال بيرينغير صلحا مع قبائل الريف، واستقبل بحفاوة من بعض أعيان ورؤساء القبائل من بني ورياغل وبني سعيد وبنطيب. وعاد المقيم العام إلى تطوان متفائلا ومشيدا بعمل سلفستري القائد العام للجيوش الإسبانية، كما طمأن وزير الحرب الإسباني "إيزا" إلى هذا الوضع المريح عسكريا وسياسيا، وفي الجهة الأخرى كان الريفيون وخاصة رجال بني سعيد وبني وليشك وأهل كرت على أهبة الاستعداد للانقضاض على عدوهم سلفستري الذي أحرق غلتهم ومنازلهم، وصادر أغنامهم دون أن يدفع لهم تعويضا مقابل ذلك، بل ودفعهم إلى الهجرة نحو الجزائر اتقاء بطشه وهروبا من الفقر والجفاف.

اتفق الجنرال بيرينغير مع رئيس الشرطة الأهلية بمليلية الكولونيل غبرييل موراليس على التوجه نحو الريف للتفاوض مع الخطابي، وذلك بإغرائه بمبلغ 7 ملايين دولار، زيادة على أسلحة حديثة وجميع أنواع الذخيرة التي تمكنه من مجابهة الجيش الفرنسي، مقابل التنازل عن خليج الحسيمة، لكن الخطابي رفض هذه المساومات، وأصدر أمرا يقضي بفرض غرامات على كل من يتفاوض مع الإسبان في هذه القضية، كما هدد الإسبان بعدم اجتيازهم وادي أمقران، وإلا سيتصدى لهم المجاهدون من تمسمان وبني توزين، وهو الأمر الذي أثار حفيظة سلفستري، فقرر غزو المنطقة ساخرا من تهديدات الخطابي ومستصغرا من قواته وعدته الحربية.

بدأ سلفستري في بناء الثكنات والحاميات العسكرية لتسهيل الإمدادات الحربية وتأمين وجود قواته وتمركزها بشكل أفضل في كل المناطق الريفية الإستراتيجية، واقترب الجنرال من ظهار أبران أواخر ماي 1921 لمحاصرة الموقع، بيد أن الريفيين تصدوا للجيش الغازي وألحقوا به هزيمة مدوية لازالت تتغنى بها الذاكرة الشعبية والشعر الأمازيغي إلى الآن، فقد قام المجاهدون باقتحام مركز أبران، وقتلوا كل الحامية العسكرية الإسبانية من ضباط وجنود، إلا من استطاع منهم الفرار، فالتحقوا إما بأنوال أو بسيدي إدريس، إثر ذلك أصدر الجنرال برينغير أوامره سلفستري بعدم التقدم إلى الأمام؛ لكن الأخير لم يعر أدنى اهتمام لهذه الأوامر، وتوجه مباشرة نحو أنوال للسيطرة على الموقع.

نشبت معركة حامية الوطيس بين المغاربة والإسبان دامت خمسة أيام، شارك فيها 25 ألف جندي إسباني، ولم يحضر إلى أنوال من مجاهدي محمد بن عبد الكريم الخطابي سوى ألفي مجاهد، أما الجنود الآخرون فكانوا ينتظرون الوقت المناسب، ويترقبون الأوضاع مع زعيمهم الخطابي بأجدير، وفي حوالي السادسة من مساء يوم 20 يوليو 1921، وصل أسد الريف مع 1500 جندي إلى موقع أنوال، لتشتعل الحرب حتى صباح اليوم الموالي، وانتهت المعركة الطاحنة بانتحار سلفستري وموت الكولونيل موراليس الذي أرسل محمد بن عبد الكريم جثته إلى مليلية، لأنه كان رئيسه في إدارة الشؤون الأهلية سابقا.

اتبع الخطابي في هذه المعركة خطة التخندق حول إغريبن، ومنع كل الإمدادات والتموينات التي تحاول فك الحصار على جيش العدو، وكانت الضربة القاضية لمركز إغريبن عندما أدرك المجاهدون نقطة ضعف الجنود الإسبان المحاصرين، والمتمثلة في اعتمادهم على مياه عين عبد الرحمن بوادي الحمام الفاصل بين إغريبن وأنوال، فركزوا حصارهم حول هذا النبع المائي، وبذلك حرم الجنود الإسبان من الماء، واشتد عطشهم إلى درجة اضطرارهم إلى شرب عصير التوابل وماء العطر والمداد، ولعق الأحجار، بل وصل بهم الأمر إلى شرب بولهم مع تحليته بالسكر كما جاء في المصادر الإسبانية.

وقد تتبع المجاهدون فلول الجيش الإسباني، وألحق به عدة هزائم في عدة مواقع ومناطق مثل: دريوش وجبل العروي وسلوان.. وواصلوا تعقبهم إلى حدود مليلية، وبعد ذلك أصدر الخطابي أمره بالتوقف وعدم الدخول إلى مليلية المحصنة لاعتبارات دولية وسياسية وعسكرية، وفي هذا يقول أزرقان مساعده الأول في السياسة الخارجية : "نحن (الريفيين) لم يكن غرضنا التشويش على المخزن من أول أمرنا، ولا الخوض في الفتن كيفما كانت، ولكن قصدنا الأهم، هو الدفاع عن وطننا العزيز الذي كان أسلافنا مدافعين عنه، واقتفينا أثرهم في رد الهجمات العدوانية التي قام بها الإسبان منذ زمان، وكنا نكتفي بالدفاع عن الهجوم عليه فيما احتله من البلدان مثل مليلية التي كان في طوقنا أخذها بما فيها، من غير مكابدة ضحايا جهادية؛ لكنا لم نفعل ذلك لما كنا نراه في ذلك من وخامة العاقبة، فإنه ليس عندنا جند نظامي يقف عند الحدود التي يراعيها".

وقد عبر محمد بن عبد الكريم الخطابي عن مسألة عدم استرجاعه لمدينة مليلية في مذكراته، فقال:

"على إثر معركة جبل العروي، وصلت أسوار مليلية، وتوقفت، وكان جهازي العسكري ما يزال في طور النشوء. فكان لابد من السير بحكمة، وعلمت أن الحكومة الإسبانية وجهت نداء عاليا إلى مجموع البلاد، وتستعد لأن توجه إلى المغرب كل ما لديها من إمدادات، فاهتممت أنا، من جهتي بمضاعفة قواي وإعادة تنظيمها، فوجهت نداء إلى كل سكان الريف الغربي، وألححت على جنودي وعلى الكتائب الجديدة الواردة مؤخرا، بكل قوة، على ألا يسفكوا بالأسرى ولا يسيئوا معاملتهم، ولكني أوصيتهم في نفس الوقت وبنفس التأكيد، على ألا يحتلوا مليلية، اجتنابا لإثارة تعقيدات دولية وأنا نادم على ذلك بمرارة وكانت هذه غلطتي الكبرى".


محمد بن عبد الكريم الخطابي


·        مراجع

-         Biblioteca Nacional de España, Hemerotica Digital, Ministereo de la GuerraAnuarios militares de España 1895-1920.

-         Palma Moreno, Juan Tomás. Annual 1921. 80 años del Desastre. Almena, Madrid, 2001ISBN 84-930713-9-0

-         Pando despierto juan, Historia secreta de Annual. Ediciones Temas de Hoy, S.A., Madrid 1999, P :423  ISBN 84-7880-971-6

-         REGAN, Geoffrey. "Historia de la incompetencia militar." Editorial Crítica. 2001. P :347

-         Long، David E. (2002). The Government and Politics of the Middle East and North AfricaP :393

-         جميل حمداوي، "المقاومة بمنطقة الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي أنموذجا" المكتبة الشاملة الذهبية، ط 2016.



سلفستري إلى جانب ولده مانويل

 سلفستري سنة 1911







صور من معركة أنوال أو كارثة أنوال كما يسميها الإسبان
الجنرال سيلفيستري في العرائش فوق الحصن يتفقد دخول باخرة حربية و سط بحر العرائش الهائج ( ذ. حسام الكلاعي )




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق