الاثنين، 25 سبتمبر 2017

جان جونيه، دفين العرائش الشهير .. قراءة نقدية

على مسؤوليتي: جون جنيه آخر رموز الادب النازي/الفاشستي.

     بقلم : عزيز قنجاع



اعتبارات تمهيدية :
قد تكون هذه القراءة صادمة للكثيرين من عشاق جون جنيه الاديب والانسان والرجل الذي ساند الثورة الفلسطينية وكتب عن المهمشين والمنبوذين وشرف مدينة العرائش، مدينتي، باختيارها مرقده الابدي، لكن اجدني في هذا المقال الذي لن يعجب الكثيرين مضطرا ان اقرا جنيه من وجهة نظر أخرى تؤيدها اعماله المسرحية الكثيرة، وبهذا السبب لم اشارك في الندوة التي نظمتها جمعية ليكسا للمسرح في الندوة التي اقامتها بمناسبة عرض مسرحية الخادمات ، حتى لا يعتبر الامر تهجما على رجل كرمته جمعية ليكسا بعرض مسرحية الخادمات وكانت من توقيع المخرج الكبير جواد الاسدي ،خلال مهرجانها الاخير.

تقديم :
ان هذه القراءة لجان جونيه ومسرحية الخادمات هي قراءة نقدية من موقع نقدي إيديولوجي، نقول هذا حتى نميز ما سنقوم به من نقد، عن النقد المسرحي او النقد الادبي او الفلسفي عموما، لكننا طبعا سنستعمل ادوات هذه المجالات في قراءتنا لنص الخادمات لجونيه، مع المحافظة على كل نوع في نطاقه الخاص – حتى لا يكون تداخل في الحكم، فكما اشرت الى ذلك دائما ، ليس لوسيان غولدمان مثلا ناقدا أدبيا رغم انه كتب حول راسين ولوركا والقصة الجديدة في فرنسا، كما أن ماركس لا يعد ناقدا أدبيا لأنه كتب صفحات حول بالزاك في الأسرة المقدسة... و النقد المترتب على اللغويات الحديثة كما يمثله رولان بارث ، يجب أن يعتبر نقدا فلسفيا، لا نقدا أدبيا منهجيا. أما النقد الذي نوده لهذا العمل فانه يحاول أن يصل إلى النظرة المتحكمة في مجمل العمل في التصور والإحساس والكشف عن العوامل التي حددت هذه النظرة ومبررات وجودها وحضورها لدى جون جنيه، من هذا المنظور تبدو مسرحية الخادمات لجان جونيه صورة خامة تبين الأفق الفكري لجان جونيه وتحشره ضمن سياق نظري عام مخالف لما اجمعت عليه الدراسات التي تناولت جنيه و اعماله .

نيتشه، هيغل وجونيه : مسرحية الخادمات لجان جونيه و جدلية العبد و السيد
السيدة في مسرحية الخادمات، ربة البيت، التي تعيش عيشة ارستقراطية في شقة فخمة، تعكس بأثاثها الطراز الارستقراطي المخملي في الحياة، امراة ترتدي ألبسة كلاسيكية وافرشة غالية وتحرص على نمط عيشها باتباع طقوس منتظمة تكون الواسطة فيها أي في تلبيتها هما الخادمتان الشقيقتان "كلير وسولانج".
السيدة امراة تعيش ضمن نظام واضح  فمن طقوس هذه السيدة أنها كانت تستيقظ كل يوم من نومها القصير بعد الغداء فتدق الجرس وتدعو إحدى الفتاتين طالبة منها الشاى ..فتأتى به إليها  وتتناوله السيدة ببطء فى فراشها، ثم تنهض متكاسلة إلى حمامّها الخاص وتعود لترتدى ملابسها  التى أعدتها لها إحدى الخادمتين ومن ثم تشترك الشقيقتان فى مساعدتها على إرتداء ملابس الخروج وتصفيف شعرها ووضع المساحيق التى تزيدها جمالا , ثم تقدمان لها حقيبة يدها ويودعانها إلى باب المسكن، لا شيء في تصرفات السيدة خلال طول المسرحية ينم عن معاملة سيئة للخادمتين بل علاقتها بالخادمتين طيبة . وهنا احدى المفارقات القوية في المسرحية, ففي الوقت الذي تغرق فيه الخادمتان في بحر الحقد والغل اتجاه السيدة، نجد ان "السيدة" التي تخضع اليها "الخادمتان "، لا تعاملهما اية معاملة تؤكد على الاكراه او التسلط وبقول فلسفي اوضح, لا تنفيهما . هي فقط بعملها اليومي و طقوسها الارستقراطية تؤكد على تمايزها هي وتستمتع بهذا التمايز . فالنفي ليس حاضرا في الجوهر كمصدر تستمد القوة "السيدة" نشاطها منه ، بتاتا فعلى طول المسرحية يغيب اي حضور سلبي للسيدة، عكس ما هو الحال عليه في جدلية العبد و السيد عند هيغل في كتابه فينومينولوجية الروح حيث النفي ينبثق عن هذا النشاط ، انه حصيلة وجود قوة فاعلة وحصيلة تاكيد تمايز هذه القوة.
 يستبدل جونيه العنصر المفارق في النفي ، والتعارض والتناقض بعنصر عملي : التمايز : موضوع تاكيد و استمتاع. اليست هنا نعم "السيد" عند نيتشه تقف دائما ضد "كلا " الجدلية و التاكيد ضد النفي الجدلي ، و التمايز ضد التناقض الجدلي والفرح والاستمتاع ضد العمل الجدلي. فعلاقة السيدة بالخادمتين " كلير" و"سولانج" طيبة إلى حدّ ما، نفهم ان عنصر حسن المعاملة  قائم، فهي رقيقة  فى التعامل معهما طوال الوقت حتى انها حينما تهم مغادرة البيت  للاوبرا او المسرح او حفلة غنائية - نلاحظ هنا مستوى الرقي والفرح و الانسجام الذي يعيشه "السيد"- ويؤكده جنيه بخفة زائدة ، فانها تودعهما عند خروجها من البيت دائما وهي باسمة او شاكرة ، اذن فنظام القيم الارستقراطي الذي تمثله السيدة  يولد من خلال تاكيد منتصر للذات، زاه بنفسه، متصالح مع ذاته ، لكن يبقى السؤال المطروح هو لماذا تضمر "كلير و سولانج" كراهية وحقد كبير للسيدة ، المشكلة في المسرحية لا نجد جوابا لها ، بل نجد ادانة لهذا الحقد باعتبار السيدة تمتاز باخلاق ومعاملة جيدة لخادمتيها ، فلا جواب لجنيه و لا اشارة، انه ينطلق منه كمعطى طبيعي ، مسلمة فلسفية ، الحقد و الكراهية مكون جوهري من مكونات قيم العبيد ، لامفر من صدقيتها، انها فقط وبكل بساطة طبيعة اخلاق العبد، ان العبد ازاء سيده حاقد ناقم وهذه هي طبيعة العبد، وان تساءلنا من اين استقى العبد هذه الاخلاق الحاقدة الناقمة فسيجيبنا نيتشه، ان نظام قيم العبيد هو بالدرجة الاولى رفض " كلا" لكل ما يقع خارجه، لكل ما هو مختلف عنه، لكل ما يشكل بالنسبة له اللاأنا، وهذا الرفض يشكل بالنسبة له فعل تكون. ان اخلاق العبد هو ما يشعر به الانسان المستضعف المغلوب ، كل ما يفكر به انما هو قناع للانتقام من سيده المتسلط عليه

فريدريك نيتشه

تبدا المسرحية بتكثيف حضور الخادمتين على مستوى العمل ، الدور الرئيسي للعبد في علاقته بالسيد انه العمل او الخدمة، نرى ان جونيه يوضح لنا هذا الدور في بداية المسرحية فكلما استيقظت السيدة قامت الخادمتان بالعمل الضروري لاشباع مطالب السيدة التي تستيقظ كل يوم من نومها القصير بعد الغداء، تدق الجرس وتدعو إحدى الفتاتين طالبة منها الشاى. فتأتى به إليها  وتتناوله السيدة ببطء فى فراشها, ثم تنهض متكاسلة إلى حمامّها الخاص وتعود لترتدى ملابسها التى أعدتها لها إحدى الخادمتين ومن ثم تشترك الشقيقتان فى مساعدتها على إرتداء ملابس الخروج  وتصفيف شعرها ووضع المساحيق التى تزيدها جمالا , ثم تقدمان لها حقيبة يدها ويودعانها إلى باب المسكن لتخرج السيدة الأرملة فى زيارة لإحدى صديقاتها أو إلى المسرح أو إلى السينما وتودعهما باسمة شاكرة وتغيب. تبدو هنا السيدة شبيه بسيد هيغل في الكتاب المشار اليه آنفا حيث انه ليس في وسع السيد  سوى الاقتصار على الاستمتاع بالشيء او الموضوع الذي اعده العبد . لكن هيغل يضيف انه "وعندئد لن تكون حرية السيد ازاء الطبيعة سوى مجرد ثمرة او نتيجة للجهد الذي يقوم به العبد" وبالتالي كنا ننتظر ان تتطور العلاقة بين الطرفين الى علاقة احتدامية يحتل فيها الحضور العملي للخادمات كشخصيات ينتقلن من مجرد اشباع لرغبات السيد الى سيدات حقيقيات بواسطة العمل، فالعمل هو الذي يسمح للانسان بالتحكم بالطبيعة واعادة تشكيلها و فرض الطابع البشري عليها، ومعنى هذا ان العمل هو الذي ينتقل بالذات الى دائرة الموضوع وهو الذي يخلع في الوقت نفسه على الموضوع طابع الذات حسب الجدلية نفسها في تعبير هيغل فالعبد عند هيغل حين يصطدم بالموضوع او الشيء فانه يكتشف عندئد طبيعته او بناءه بحيث ان عمله يصبح بمثابة المصدر الحقيقي لكل علم و معرفة وهذا الكشف الطويل الاليم لقوانين الطبيعة واسرارها المعقدة هو الذي سيسمح للوعي باكتشاف ذاته و التعرف على نفسه .
لا شك ان السيد الذي استطاع ان يفرض نفسه على العبد وان ينتزع منه الاعتراف له بالسيادة لن يلبث عندئد ان يجد نفسه ازاء " موضوع " سوى " العبد " نفسه الذي سيكون الاداة الفعالة في يد السيد من اجل العمل على تغيير الطبيعة.ومعنى هذا ان السيد لن تكون له علاقات بالطبيعة الا من خلال العبد ونشاطه كعبد لانه فقد كل علاقة انسانية بالطبيعة ولم يعد يفرض عليها – عن طريق العمل – اية صورة كفيلة باشباع حاجاته ومن ثم فانه لم يعد امامه سوى ان يستمتع بالطبيعة دون ان يقوى على تغييرها مباشرة وهذا هو السبب في ان ترقي وعي السيد لا بد ان يتعرض لخطر التوقف، و بالتالي من يترقى الى مرتبة السيد بواسطة العمل هو العبد، ولا تخفى عليكم هنا ارتباط المنظور العام بالفكر الماركسي على هذا المستوى ، واذا كان صراع البشر فيما بينهم قد عمل على ظهور مبداي السيادة والعبودية فان حركة الصراع الجدلي التاريخي لن تلبث ان تطيح بهذين المبداين وان تقلب الاوضاع راسا على عقب وتؤدي الى تحرير العبيد، اعتذر على هذا الاستطراد في محاولة تقريب الفهم الهيغيلي لعلاقة السيد بالعبد حتى يتسنى فهم الموقف الفلسفي لجنيه من العلقات القائمة بين السادة و المسودين والتي تحكم مجمل اعماله المسرحية.
في مسرحية الخادمات لجونيه نجد و مباشرة وبعدما أن تتأكد الشقيقتان "سولانج و كلير" من مغادرة السيدة للمنزل حتى تتركان كل ما بيديهما وتضعان العمل جانبا، لتبدآ فى تقمص إحدى الشقيقتين شخصية السيدة، فترتدى ملابسها وتنام فى فراشها وتدق الجرس وتطلب الشاى من خادمتها بلهجة ارستقراطية مفتعله , وتصدع الأخرى بأمرها ..وتُمضى المساء فى تلبية طلباتها ومساعدتها على خلع ملابسها وتدليك قدميها كما تفعلان مع السيدة الحقيقية حتى إذا حان موعد عودتها , أسرعت السيدة المزيفة بخلع ملابسها وارتداء ملابس العمل وتقف مع شقيقتها بجوار الباب تستقبلان السيدة بخنوع واحترام ، وفى اليوم التالى يتم تبادل الأدوار فتنام إحدى الشقيقتين فى السرير وتقوم الأخرى بخدمتها وهكذا.
ان العبيد عند جونيه ملاعين يعيشون في كهف الغيرة و الحقد ولا يمكنهم ان يفهموا انفسهم و العالم الا من خلال حلم التماثل مع السيد وليس باستطاعتهم الانفكاك عن اخلاق سادتهم وقيمهم، فجل ما لديهم من حلم هو ان يكونوا كالاسياد وفي محاولتهم ان يكونوا كذلك يصيرون كائنات مسخة، كائنات بلا ملامح حقيقية ان هذا الطموح  اثناء تحققه في خفية من السادة ينتج مهرجين وملاعين وحاقدين ناقمين لكن أفقهم لا يتجاوز اسيادهم.
ان جونيه في الخادمات عندما يقارب القيم الاخلاقية والثقافية الحالية يعتبرها تعبيرا خالصا عن غل ونقمة ضحايا الحياة، لهذا ابخست الحياة فوق هذه الارض الحياة الحقيقية ومجدت حياة خيالية نعيشها بعديا في السماء او في عالم المرآة حيث تقضي " كلير وسولانج" كل يومهما في عالم وهمي يقلدان حركات وتانق السيدة ، عالم ليس لهما، عالم الاسياد،  ويلتقي مع نيتشه في موقفه من جدل العبد و السيد  الهيغيلي حين يمثل الخادمتان كقوة منهكة لا تملك القدرة على تاكيد تمايزهما انها قوة لم تعد تستطيع الفعل بل اكتفت برد الفعل على القوى التي تسيطر عليها ، لذا اعتبر نيتشه ان الجدلية الهيغلية هي تنظير لنظام الرعاع ، اي انها تقتصر على منهج العبد الذي حين راح يخدم سيده وحين مضى يعمل لتغيير الطبيعة فانه لم يلبث ان سار على درب التحرر الايجابي، حيث يتحجر السيد و يتجمد في صميم موقف السيادة الذي توقف عنده، فلم يعد في وسعه ان يتقدم و ان يعلو على نفسه بينما استطاع العبد ان يتغير و يترقى فاصبح بعلمه و جهده هو السيد الحقيقي لسيده الاصلي.

جورج فيلهلم فريدريش هيجل

جونيه بقي متحجرا في موقفه النيتشوي، عالم العبيد عالم الكراهية و الحقد و الغل والنقمة، العجيب في مسرحية الخادمات ان جونيه يهشم جميع المعاني التي تحكمت في نظريات التاريخ المعاصر "فكلير وسولانج" الاختان، لا يحقدان على السيدة فحسب, بل ان علاقتهما مع بعضهما كأختان تشوبها احتدامية عميقة تفرز نوعا ماكرا من الكراهية المتجدرة لبعضهما لا حدود لها فحتى قرابتهما الدموية " البيولوجية، العصبية" و لا المهنية " الطبقية" استطاعت ان تدعم حضورا ايجابيا للخادمتين فالكراهية متبادلة بينهما ولا انفكاك لهما عنها بل انهما حينما يقلدان سيدتهما فانهما يستحضران صورة السيدة المستغلة العنيفة القاسية ، لا بسبب ان هذا هو طبع السيدة التي يشتغلان عندها ، لا بتاتا ، فالسيدة مشغلتهما والتي تعيشان في كنفها تترفق بهما لدرجة كبيرة ، فصورة السيدة المتسلطة تحضر حين تمثل الخادمتان دور السيدة، فيمزجان حقدهما على بعضهما حين تقليد السيدة، حينها يستدعيان صورة لسيدة ليست حقيقية، بل سيدة وقد امتزجت باخلاق العبيد، لذا يصورهما جنيه بكثير من السخرية حين يلعبان دور السيدات، فيصيران مهرجات فقط، فاخلاقهما الاصلية الحقيقية المبنية جوهريا على الحقد والكراهية لن تدعهما يصيران سيدات ولو اوتوا كل اسباب السيادة، فالعبيد عبيد بالجوهر.  ان السيد القاسي البغيض المستغل للاخرين لا يوجد وغير موجود انه من صنع خيال العبد ، انها صورة صنعتها مخيلة العبد عن شكل السيد الذي يحلم العبد ان يتطور ليتطابق معه يوما ، انها صورة تختصر العبد الوصولي البغيض الكاره لكل شيء، لا ننكر مدى الحقد الذي كنه نيتشه لفلسفات التاريخ الحديث فالاشتراكية في نظره صورة اخرى من صور الغل والحسد الذي يشكل جوهر العبيد والضعفاء، لهذا الاعتبار  فالتاريخ عند نيتشه لا فرق فيه بين الانسان و الحيوان ، فالانسان حيوان، ليس عقلا يتحكم في جسم بل هو جسم يستعمل العقل كاداة طيعة للوصول الى اهداف غريزية. فالتاريخ الحقيقي هو تاريخ الاقوياء افسده غل الحاقدين العبيد لذى لا يفتر نيتشه ان يعطي  امثلة تركزت اساسا حول روما التي مثلت العظمة، و المجد والدين المسيحي الذي عبر عن الضعف والمرض والمسكنة التي سكنت روح اليهود الذين غلبوا و استصغروا منذ قرون ، وكل من يعتقد ان ارتباط جونيه بالقضية الفلسطينية من باب ايمانه بحركات التحرر الوطني لن يعرف ابدا ان الارتباط بالفلسطينيين كان نكاية في اليهود، ولا علاقة له لا من قريب او بعيد بالثورة الفلسطينية،  وان اصول كرهه لدولة اسرائيل نابع من خط طويل من التنويعات الفلسفية التي اضافتها النازية للتضمينات النيتشوية لمعنى الاصل الصالح القوي والحقد الكبير الذي كنته لليهود في هذا الباب معروف
 ان قراءات متسرعة لجونيه والاستعمال المفرط للنقد الادبي بعيدا عن نقد المضامين الايديولوجية للمحتوى الادبي هو ما زاغ بقراء جونيه الى المحتويات الجمالية لرجل طوع اللغة الفرنسية بشكل ملفت، اخفت معها الابعاد النيتشوية لادب جونيه، فادب جونيه ان لم تضعه ضمن اطره الايديولوجية، فانك  ستجد فيه  ما تبحث عنه: لماذا ، لان جونيه لم يكن من رزمة ادباء ومفكري ما بعد الحرب العالمية الثانية الذين تاثروا بالقراءات الجديدة لماركس وانجلز و لينين وشكلوا ما سمي باليسار الجديد بعد احداث المؤتمر العشرين للاحزاب الشيوعية العالمية، ولكن جونيه خاطب نخبة متشككة تشك في قيم الليبيرالية و الدينية و الاشتراكية مستعملا سلاح نيتشه الفلسفي الذي حارب الليبيرالية بسلاح الاشتراكية والاشتراكية بسلاح العلم الطبيعي وهكذا تستهوي كل الاتجاهات . يؤول القارئ عدو الدين نقد اوهام الدين بانه شجب لمؤامرة الفقهاء، ويؤول القارئ المتشبع بالعلوم الحديثة قانون الحياة بقانون البيولوجية . ورجل الدين يرى في هذه الدعوة دليلا على افلاس العقل البشري وضرورة الرجوع الى رحمة الله
الخادمات كاحالة نسوية للعمل جاءت قاسية في عمل جونيه انه استمرار قاس لرؤية جاءت متضمنة في الاعمال الكلاسيكية للفاشية اتجاه المراة  ويتضمن كتاب إرادة القوة لنيتشه موقفا سلبيا تجاه المرأة وحتى كراهية لها فاقواله في كتابه "ارادة القوة"  مثل هذه "المرأة! نصف البشرية الضعيف، المضطرب، المُتقلِّب، المتلوّن... إنها بحاجة إلى ديانة للضعف تقدس الضعفاء، والمحبين، والمتواضعين لقد تآمرت المرأة دومًا مع كافة صور الانحلال ضد الرجال "الأقوياء". ان الخادمات" كلير و سولانج" جئن في ابشع صور رؤية جنيه لانهن كن الوجه الاخر الكريه لجنيه لا افسر ذلك طبعا بميولات جنيه الجنسية فقط وهو ما يلتقي فيه مع نيتشه الذي بقيت علاقته بالنساء ملتبسة و بأخته اكثر ، و لكن بحقد دفين للمراة تحتاج شرحا مطولا قد نتطرق اليه في مقال اخر
ولان غل العبيد على الاسياد غل لا حدود له ، غل متاصل،  فإنه يتصاعد حتى يصل إلى أن تقرر الشقيقتان قتل السيدة من خلال وضع السمّ لها فى فنجان الشاى، وفى اليوم المحدد تستيقظ السيدة من نومها وتطلب الشاى الخاص بها كالعادة , فتُقدم لها إحدى الشقيقتين الفنجان المسموم ،فى نفس اللحظة تتلقى السيدة مكالمة تليفونية مفاجئة تضطر معها للمغادرة دون ان تشرب شايها.


نهاية المسرحية : جدل هيغل، جدل العبيد
على الفور وبعد خروجها كالعادة تبدأ " كلير و سولانج في تقليد سيدتهما ،  ما يهمنا في اخر هذا المقال هو استمرار الخادمة اخت كلير في اللعبة رغم معرفتها ان كاس الشراب المعد للسيدة مسموم، فترتدى ملابس السيدة وتنام فى فراشها وتدق الجرس فتأتى الخادمة فتشير إليها بترفّع إلى كوب الشاى الموضوع فى مكانه وتأمرها بتقديمه لها تحاول شقيقتها أن تنبهها أن هذا الفنجان مسموم وأنها تعلم هذا من قبل وتنبهها إلى ضرورة إيقاف اللعبة الآن , لكنها تتمادى فى الدور حتى النهاية.
لن تتوقف اللعبة و لم تتوقف، ان سولانج كانت في موضع لا يسمح لها بالتنازل عن موقعها عن سيادتها ، انه دورها وكل ايقاف للعبة هو تخلي عن حقها في حصة سيادتها،  ولانهما مضطرتان الى ان يرفعا الى مستوى الحقيقة يقينهما الذاتي ، يقين وجودهما لذاتيهما ، كل منهما عليه ان يمتحن هذا اليقين في نفسه و في الاخر . فقط بالمجازفة بحياته ينتزع المرء الحرية ، هذا الصراع يدل على انه لا يوجد شيء في الوعي ليس بالنسبة له لحظة فانية –الفرد الذي لم يجازف بحياته يمكن بالتاكيد ان يعترف به كشخص ، و لكنه لم يبلغ حقيقة هذا الاعتراف كوعي ، ذات مستقل . كذلك كل وعي ذات عليه ان يلاحق موت الاخر ، ما دام يجازف فيه بحياته الخاصة . مادام الاخر ليست قيمة بالنسبة له بقيمته هو ، جوهر الاخر يظهر له بوصفه اخر ، بوصفه خارجيا ، وعليه ان يتجاوز هذه الخارجية ،الاخر هو وعي يوجد فقط ويؤخد في المتعدد ، لا يستطيع ان ينظر الى كينونته الاخرى الا بوصفها محض كائن لذاته بوصفها نفيا مطلقا .اننا في قلب الجدل الهيغيلي جدل العبيد و قد حلموا وتاقوا الى ان يكونوا اسيادا،
ورغم ان اختها تكرر نداءها لها باللهجة الارستقراطية الآمرة : الشاى وتعاود شقيقتها تنبيهها , لكن الأخرى كانت قد مضت بعيداً فى التماثل الوهمي مع سيدتها فلا تتنازل عن أرستقراطيتها ولا عن المطالبة بالشاى .  ان جونيه في هذا المشهد الاخير يدين موقف هيغل من جدل العبد و السيد ويعتبره كما اسلفت سابقا جدل العبيد انفسهم ، انه جدل لا يستقيم الا في فكر العبيد،  فجدل السيد و العبد كما هو مطروح عند هيغل يختزل وجهة نظر العبد ويقوم على فرضية ان القوة لا ينظر اليها كارادة قوة بل كتمثيل للقوة ، كتمثيل للتفوق ، كاعتراف من قبل احد الطرفين بتفوق الطرف الاخر . ان ما تريده الارادات عند هيغل هو الحصول على الاعتراف بقوتها " تمثيل قوتها " . و بذلك ينتقد نيتشه مجمل هذا التصور الهيغيلي لانه يشوه ارادة القوة وطبيعتها ويراها من وجهة نظر العبد ،. انها هي هي رؤية العبد . واذا كانت العلاقة بين السيد و العبد تستعير الشكل الجدلي بحيث اصبحت النموذج السائد لكل الهيغيليين و الماركسيين ، فمرد ذلك الى ان هيغل يعطينا صورة عن السيد هي من صنع خيال العبد ، انها صورة صنعتها مخيلة العبد عن شكل السيد الذي يحلم العبد ان يتطور ليتطابق معه يوما ، انها صورة تختصر العبد الوصولي . فتحت ستار التصور الهيغيلي للسيد يطل دائما العبد براسه .
فنهاية المسرحية جاءت لتعطينا جونيه وهو يعبث بالرؤية الفلسفية لهيغل ويسخر منها ، وعندما اقول هيغل فاننا اعني كل الموقف الحديث المبني على منطق التطور ولا يمكن استثناء الماركسية بجدلها الذي ينتهي بسيادة العبيد البروليتاريا على الاسياد الراسماليين من هذه السخرية.  فنجد ان كلير رغم تنبيه اختها بان كاس الشاي مسموم الا انها سولانج تكرر نداءها لها باللهجة الارستقراطية الآمرة : الشاى وتعاود شقيقتها تنبيهها , لكن الأخرى كانت قد مضت بعيداً فى التماثل الوهمي مع سيدتها فلا تتنازل عن أرستقراطيتها ولا عن المطالبة بالشاى، اننا نجد انفسنا مرة اخرى ازاء ضرب من الازدواج ،الوعي بالذات لدى الخادمة سوف يواجه هذا الموقف الحيوي على نحوين مختلفين : و اية ذلك انها ستمضي بعملية الصراع حتى نهاية الشوط اعني لدرجة المخاطرة ومواجهة الموت مؤكدة بذلك وعيها الخالص بذاتها في سبيل اشباع رغبتها في انتزاع اعتراف اختها بها ، لكن في منطق جدل العبيد وفي التعبير الفني لجونيه ، فكل وعي يسعى الى موت الاخر وفي هذه الفاعلية سلفا حاضرة فاعلية الذات – اذ ان السعي الى موت الاخر يفترض ان الساعي يجازف بحياته الخاصة . ليس بامكانهما تجنب هذا الصراع ، فالصراع البشري هو الصراع الذي يقوم به طرفان يريد كل منهما ان يثبت ذاته و يؤكدها باعتبارها فوق مستوى الحياة الحيوانية الصرفة ومن ثم فانه يضع حياته نفسها موضع الخطر اخذا على عاتقه مواجهة الموت، سولانج لن تتنازل عن حقها في السيادة ، لذا كان عليها ان تمضي بعملية الصراع واثبات احقيتها في السيادة، حتى نهاية الشوط اعني لدرجة المخاطرة ومواجهة الموت مؤكدة بذلك وعيها الخالص بذاتها، فنحن هنا ازاء موقفين مختلفين : موقف السيد " اعني موقف الوعي الخالص بالذات " وموقف العبد" اعني موقف الوعي الذي رفض المخاطرة بحياته في سبيل اشباع رغبته في انتزاع اعتراف الاخر به وبالتالي اقتصر على اشباع رغبة الاخر، . لذا تنجرف كلير الى منطق الطبيعة هي الأخرى وتقدم الشاى لاختها،  فتتناوله سولانج وتموت وبموتها تنتهي المسرحية.
ان رجلا مثل جونيه، الرجل الذي حقد على فرنسا كان افقه الفلسفي موافقا لذاك الافق الذي اذل فرنسا باحتلالها اثناء الحرب العالمية الثانية، وجنيه الرجل الذي لاقى الاهانة من ذويه جلاديه الذين تفننوا في ادلاله كانوا من فئات وضيعة لكنهم لعبوا دور الاسياد حين احتقروه.

قبر جان جونيه بالعرائش

الجمعة، 22 سبتمبر 2017

طوابع بريدية من العرائش

طوابع بريدية من العرائش

    محمد عزلي


طوابع بريدية لبلدية العرائش في الفترة المتراوحة بين 1936 و 1939
نسجل هنا ثلاث ملاحظات أساسية:
1- نجمة داود السداسية التي كانت معتمدة من طرف الدولة المغربية في الأعلام العسكرية المخزنية والأختام والنقود قبل أن تتبناها الدولة العبرية..
2- العملة السائدة هي البسيطة ووحدة الصرف الأصغر هي السنتيم الذي كان يترجم للعربية بكلمة (وجه)..
3- اعتماد ازدواجية اللغة (إسبانية/عربية)


**********



طابع بريدي كولونيالي من فئة 40 سنتيم، يتضمن صورة لفضاء السوق الصغير التاريخي، مكتوب عليها " حماية إسبانيا بالمغرب " بالعربية والإسبانية.

(1933/1935)

**********


طوابع بريدية مغربية، تحتفي بالعرائش في يوم الطابع البريدي.
الختم الموجود على بالطاقة يؤرخ للحدث من الدارالبيضاء بتاريخ 24/11/1997.
·       الطابع الأول أزرق بكتابة عربية بيضاء من فئة درهمان، مكتوب فيه " العرايش المصونة بالله ".
·       الطابع الثاني برتقالي بكتابة عربية بيضاء من فئة 5.5 درهم، مكتوب فيه " العرايش المحوطة بالله "


**********


طابع بريدي مؤرخ سنة 1940، عبارة عن رسم رائع لباب القبيبات وخلفه السوق الصغير، وتظهر فيه تجليات الحياة اليومية للعنصر البشري المغربي اجتماعيا واقتصاديا بمدينة العرائش، كما يظهر بوضوح الشكل العام للأزياء المغربية التقليدية الأصيلة والتي كانت سائدة وطاغية في تلك المرحلة، ونسجل هنا بعض الملاحظات :
1-   كثافة التواجد البشري والرواج التجاري.
2-   الغياب الكلي للعنصر الإسباني في المجال رغم أن هذه المرحلة الزمنية كانت فيها سلطات الحماية في أوج سيطرتها واستقرارها وكان الإسبان المعمرين يشكلون ثلث سكان المدينة.

3-   توقيع صاحب اللوحة (ماريانو بيرتوشي)، وهو رسام إسباني شهير ولد بغرناطة في 06/02/1884 وتوفي بتطوان في 20/06/1955، تأثر بالفن الشرقي الإسلامي وأبدع فيه، اعتبر رسام الحماية الإسبانية الأول حيث صور المناظر الطبيعية ومظاهر التراث الثقافي وأوجه الحياة المغربية العامة في كل ربوع المنطقة الخليفية، عمل كمفوض من الحكومة الإسبانية عن الفنون الجميلة بمنطقة الحماية متقلدا في مساره الحافل العديد من المناصب السامية، وتشرف بعديد التكريمات والأوسمة، وسير مدرسة الفنون الجميلة بتطوان التي لازالت تلعب إلى اليوم نفس الدور الوظيفي الذي خططه بيرتوشي نفسه، اشتهر كذلك بما نشر له في الصحف والمجلات، كما سوق أعماله تجاريا بشكل مثير للدهشة عبر الإعلانات والطوابع البريدية والملصقات، وتبقى أهم مميازته الشخصية التي اشتهر بها إلى جانب الرسم والتدريس والتسيير هو دفاعه المستميت عن كل أوجه التراث الثقافي التقليدي المغربي الأصيل.

الخميس، 21 سبتمبر 2017

نزول عروسة السلطان سليمان بمرسى العرائش




السلطان العلوي مولاي سليمان

    بقلم : عبد الحميد بريري
تسجل المصادر التاريخية (تاريخ الضعيف الرباطي) أنه بتاريخ 13/شعبان/1226ه، الموافق لسنة 1811م وصلت عروسة السلطان العلوي المولى سليمان قادمة من ليبيا السنوسيين. وكان مولاي سليمان قد خطب الأميرة، كريمة كبير عرب الحنانشة سيف النصر.
رافق الأميرة على متن المركب الذي رسى بمرفأ العرائش وفد يتكون من "جارية بديعة الحسن والجمال ومعها أمات و وصيفات حسان، منهن مغنيات يضربن الآلة"، إضافة إلى عشر من رياس طرابلس، واثنين من فقهائها ليعقدا وثيقة الزواج، أرسلوا جميعهم من طرف سلطانهم.
و لعظيم حمولتهم و وفرتها، أرسل السلطان العلوي مولاي سليمان 130 دابة (بغال) مع محتسب مكناس (الحاج الطاهر بادو) إلى العرائش لحمل ما تبقى من متاع الوافدات، وكان عددهن 30، إضافة إلى شوار يتكون من أموال و ثياب و أفرشة، ثم انطلقوا في موكب مهيب، إلى أن استقبلوا من طرف الودايا بزي عجيب في مدينة فاس.

مولاي أحمد الريسوني

مولاي أحمد الريسوني، الثعلب الذي دوخ المؤرخين

    محمد عزلي


أجدادنا في شمال المغرب يعرفون جيدا الفرق بين الصلوات الخمس العادية وصلاة برّيسول، فالصلاة العادية هي أن يتوضأ الإنسان ثم يصلي، وصلاة برّيسول هي أن يصلي الإنسان وبعد ذلك يتوضأ، ليس في الأمر أي مغالاة أو بدع أو ألغاز، لكنها حقيقة تجسد طبيعة أحد أشهر الشخصيات المغربية القوية في بدايات القرن العشرين.
حين كان مولاي أحمد الريسوني، المعروف باسم بن ريسون أو برّيسول، يفرض سطوته وهيبته على أجزاء واسعة من ضواحي طنجة وباقي المدن المجاورة بداية القرن العشرين، كان يفرض نظاما صارما على أتباعه وعلى سكان القبائل، من بينها الحضور للصلاة جماعة في المساجد، والتي كان يحضرها برّيسول بنفسه، خصوصا صلاة الفجر، كان من الصعب أن يتخلف عنها أحد، وإلا سيتهم في دينه وكرامته وولائه، وكان الكثيرون يستيقظون من النوم مذعورين ويهرعون إلى المسجد وهم يوصون زوجاتهم بتدفئة الماء للوضوء بعد العودة من الصلاة، أي أنهم يصلون بعد النوم مباشرة في المسجد بحضور برّيسول، ثم يعودون إلى منازلهم ويتوضؤون ويؤدون الصلاة كما هي، وبذلك كان الفرق بين الصلاة العادية وصلاة برّيسول.
هذه الحكاية تبرز مدى القوة التي بلغها الرجل، فقد كان صارما في تطبيق شعائر الدين، ومقاتلا شرسا ومحاربا داهية دوخ الإسبان والإنجليز والأمريكان، وجعل الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت يعض على لسانه من الغضب وهو يتوعده بالويل والثبور وعظائم الأمور، بينما برّيسول يسخر من الجميع ويمرغ أنوف القوى العظمى في التراب.
لكن من يكون الرجل الذي اتفق المؤرخون و الدارسون و المهتمون على الاختلاف في تعريف هويته ؟
  


إنه أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله الريسوني، أو مولاي أحمد الريسوني، (برّيسول) ويدعوه رجاله الشريف الريسوني ويسميه الإنجليز الريسولي، من مواليد بلدة زينات في بني مصور قرب طنجة شمال المغرب سنة 1860، كان برّيسول طفلا عاديا تربى في حضن والدته بعد أن مات والده في سن مبكرة، أرادت أمه أن يصبح عالم دين يفتي الناس في أمور دينهم ويؤم بهم الصلوات، لكنه تحول إلى قائد عسكري يقود الناس نحو الحرب والقتال.
في تسعينيات القرن التاسع عشر، أيام السلطان مولاي الحسن الأول بن محمد، التف حوله جموع من قبيلة بني عروس، ومن أخواله بني مصوَّر.
عاش الحياة الحرة للمهرِّب في منطقة الشمال المغربي، إلى أن أمكن لعامل مدينة طنجة عبد الرحمان ولد الصدوق، أن يلقي القبض عليه، ثم أرسله إلى سجن مدينة الصويرة.
لم يكن في الإمكان قتله رغم ما اقترفه من الجرائم، بحكم انحداره من أسرة جليلة القدر، كان الأهالي يعتبرونها فوق العقاب.
مكث الريسوني في السجن مدة سنتين تقريباً، بعد أن مات السلطان، ثم أُخليَ سبيله بعفو من مولاي عبد العزيز بن الحسن، بعد تدخل الحاج محمد الطريس الذي ينحدر تقريبا من نفس منطقة الريسوني (جهة تطوان) لدى السلطان لصالحه، وهو خطأ سيندم عنه الطريس بعدئذ شديد الندم.
يروي ليونارد كاروف الذي كان يتولى قيادة سفينة (التركي) : «استقل الريسولي في عام 1901 سفينة (التركي) متوجهاً من مدينة الصويرة إلى مدينة طنجة. ولقد مكث يومين كاملين رفقتي، ولم يترك لديَّ الانطباع يومئذ، بأنه رئيس لقطَّاع الطرق، فلقد كان ذا وجه صبوح، وكان يُعرف بالاستقامة، ذا سحنة صافية، وشعر رأسه ولحيته بالغ السواد، وكان ذا هيأة طويلة ونحيلة، وقد كان البحارة يعتبرونه شريفاً من الشرفاء، فكانوا يخشونه أيما خشية، ولو لم يكن بعضهم قد حدثني عن الإنجازات الإجرامية لهذا اللص، لما كان ليخطر ببالي أنني كنت إزاء رجل من هذه الطينة.»


باخرة التركي سنة 1900 راسية بالعرائش

في بداية القرن العشرين كان المغرب مشتتا بين سلطان فتي ورطته دسائس الأوربيون، وبين فتنة تنخر البلاد أنتجت متمردين هنا وهناك من بينهم "بوحمارة"، فشاعت "السيبة"، أي (القتل والسلب والنهب)، فاعتبر كثيرون أن برّيسول واحدا من الذين انتفضوا ضد السيبة و تصدوا لها، بينما ذهب آخرون إلى أنه واحد من أهم عناصر السيبة وأحد أسباب تكريسها.
وبينما كان المتمرد "بوحمارة" يبسط سيطرته على مناطق واسعة من وسط المغرب ومنطقة شمال وشرق الريف، كان مولاي أحمد الريسوني الحاكم شبه المطلق في مناطق جبالة، ولا شيء يقف في طريقه حتى الدول الإمبريالية الكبرى، هذه السيطرة الفعلية على الأرض أرغمت الجنرال المتغطرس والمزاجي "سلفيستري" القائد العسكري الذي احتل العرائش والقصر الكبير عام 1911، على التنسيق وطلب أمان الطريق من برّيسول في رحلته نحو أصيلة لإخراج القوات الفرنسية من هناك وإحكام السيطرة عليها لفائدة المملكة الإسبانية.
المصادر التاريخية التي تتحدث عن برّيسول تخلط ما بين الأسطورة والحقيقة، فطبيعة الرجل الصارم، الجريء، والباطش، جعلت منه شخصا أسطوريا، حتى وإن كانت قلعة نفوذه محدودة لفترة معينة من الزمن، فالمؤرخون الغربيون يصفون مولاي أحمد بكونه قاطع طريق جبار ومختطف، والمصادر المغربية تصفه بالخائن ومروع الآمنين، أما المتعاطفون معه فيصفونه بالرجل الوطني الذي وقف ضد تهاون السلطان مولاي عبد العزيز وتردي الأمن في مناطق الهبط والفحص و بلاد جبالة، يشهد على هذا "والتر هاريس" البريطاني الغني الذي سافر في ربوع المغرب وتعرف على عاداته وتقاليده، ثم استقر في طنجة، قبل أن يختطفه رجال مولاي أحمد الريسوني.
عانت القوات الإسبانية من الصراع القوي والمقاومة العنيفة التي أبداها مولاي أحمد الريسوني في مناطق نفوده بالشمال الغربي للمغرب، ومن أجل هذا عاد سلفيستري من جديد إلى الساحة في 23 يونيو 1919 لكن هذه المرة بصفته القائد العام لسبتة، وقد تمكن بالفعل من شن حملة شرسة عنيفة تخللها الكثير من التواطئ والخيانة دامت أزيد من 3 أشهر هزم على إثرها الريسوني في أكتوبر 1919.

الجنرال سلفيستري


في يناير 1925، هاجمت فرقة من قوات الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي   قصر الريسوني، فقتلوا معظم الحرس وألقوا القبض على مولاي أحمد الذي توفي أواخر نفس الشهر بعد صراع مع مرض البوذمة، وبالرغم من الأقاويل التي لازمت سيرته إلا أنه يبقى بطلا مخلدا في الذاكرة الشعبية لسكان مدن ومناطق جبالة
يقول المؤرخ "مانويل أورتيغا" في كتابه عن الريسوني «عندما نتأمل سيرة هذا الرجل، إمبراطور الجبل، المحتمي بالغابات الطبيعية والجبال، والذي تحدى قوة إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية رغم الأسلحة والمدافع التي تملكانها، ورغم الذهب الذي ظلتا تغريانه به، فإننا ندرك أن الريسوني لم يكن دنيئا».
وفي كتاب «المغرب»، يقول توماس غارسيا فيغيراس : «كان الريسوني يتمتع بذكاء عال ويقظة كبيرة، وله ممارسة سياسية على قدر كبير من النضج ودراية كبيرة بالأوضاع السياسية الدولية والعالم الإسلامي، وكان يطمح إلى رؤية المغرب حرا ومن دون أية وصاية أجنبية».
أما فرانسيسكو هيرنانديث مير فيقول : «كانت فرنسا وإسبانيا تدركان قوته وتأثيره في القبائل، لذلك حاولت الدولتان ترويج تهم الخيانة ضده والقول إنه ساعد إسبانيا على احتلال العرائش والقصر الكبير».
وقد عرض بخصوص مولاي أحمد الفيلم السينمائي «العاصفة والأسد» (بالإنجليزية: The Wind and the Lion)، الذي لعب فيه الممثل البريطاني الشهير شون كونري دور الريسوني، وهو فيلم أمريكي أُنتِج سنة 1975، تدور قصته حول قيام الريسوني باختطاف عائلة بريطانية ثرية في المغرب، تم تصوير الفيلم في إسبانيا، لا يمكن اعتماده كمادة تاريخية أو توثيقية صلبة لكنه جيد للاستئناس بطبيعة المرحلة و شخصية الريسوني الأسطورية.

رابط الفيلم على النت : https://www.youtube.com/watch?v=5vtuUgwZs7Q&feature=youtu.be

"مصادر"

·        مقال لعبد الله الدامون "ثعلب جبالة الذي روع أمريكا و بريطانيا" 30/07/2008
·        The Capital Century: 1904: 'Perdicaris alive or Raisuli dead!'
·        Brief Time Magazine Article from 1925
·        Testimonial of Walter Harris, kidnapped by Raisuli in 1903, on Virtual Tangier
·        Luis Maria Cazorla « El General Silvestre y La Sombra Del Raisuni »




والتر بيرتون هاريس