الاثنين، 31 يوليو 2017

ذاكرة حديقة الهسبيريديس بالعرائش


    بقلم : محمد عزلي

عُرف هذا الفضاء في بداية القرن العشرين عند ساكنة مدينة العرائش تداولا باسم "حجرة الكنايز" أي صخرة الجنائز وذلك قبل أن يحوله الإسبان إلى حديقة للأطفال ومنتزه للكبار أواخر العشرينيات تحت اسم "هسبيريديس"
كان المكان في السابق و تحديدا منذ بناء برج اللقلاق في أواخر القرن 16 و إلى غاية تحويله إلى حديقة عبارة عن خندق دفاعي الغرض منه زيادة مناعة حصن النصر السعدي، حيث تصبح أسواره أكثر علوا والقاعدة حادة الانحدار يزيد من صعوبتها المياه الراكدة في الخندق والتي إن نضبت تتحول إلى أوحال يستعصي معها أي عملية هجوم أو محاولة اختراق، لتعطي للمدافعين أفضلية اصطياد الأعداء، وهو الشيء المعمول به عادة في الأبراج والحصون المماثلة لهذا الجيل من العمائر التي كانت سائدة في أوربا عموما وفي تركيا وإيطاليا على وجه الخصوص.

صورة توضح آثار الخندق الذي هده الإسبان

و مع نهاية القرن 19 و بداية القرن 20 عرفت العرائش والمنطقة ككل اضطرابات أمنية خطيرة تسببت فيها أطراف متعددة من الداخل والخارج وكرسها ضعف المخزن وصراع المصالح بين ما هو محلي من قياد وأعيان ومتمردين وقطاع طرق وبين ما هو خارجي جسدته أطماع القوى الإمبريالية وفي مقدمتها إسبانيا، هذه الحالة من الفوضى الأمنية (السيبة) ستجعل من هذا الخندق مكانا مثاليا لقطع الطريق من وإلى المدينة، وارتكاب الجرائم الفظيعة، وهو السبب حسب رواية أحد قدماء المدينة المدعو "سيدي عبد القادر اعبيش" من وراء تسمية "حجرة الكنايز".

صورة لبرج اللقلاق و منطقة حجرة الكنايز

سميت الحديقة من طرف سلطات الحماية باسم "الهيسبيريديس" عطفا على جنات الهيسبيريديس الموجودة بليكسوس حيث التفاحات الذهبية والأسطورة الإغريقية الشهيرة التي كان هرقل بطلها في رحلة الإثنى عشر وحكايته المثيرة مع أطلس حامل السماء والتنين العملاق الذي يحمي ليكسوس والتفاحات الذهبية..

لوحة زيتية تصور جنة الهسبيريديس Frederick, Lord Leighton, 1892.

ستعرف الحديقة بعد ذلك تداولا بين أبناء العرائش ب "خردين تشيتا" أي حديقة القدرة المسماة تشيتا عطفا على صديقة "طارزان" الشخصية السينمائية الشهيرة في مغامراته زمن السبعينات والثمانينات، وقد كان العرائشيون يتوجسون من الذهاب إلى الحديقة خوفا من غضب القردة ومزاجها العصبي إلى أن تطبعت المسكينة مع الناس وهرمت واختفت لينساها الناس إلى الأبد، ويروي لنا السيد عبد القادر اعبيش عن هذه القردة قائلا : "كانت القردة تعيش في دار الباشا (قصر البلدية) في قفص كبير وجميل، بعدها حولت إلى حديقة الهيسبيريديس ثم أتوا لها بقرد ذكر فأنجبت منه قردة، ثم بقيت رفقة ابنتها دون الذكر بعد أن اختفى ثم اختفت القردة الصغيرة، لتعود التشيتا كما كانت أول مرة وحيدة" وهذا ما يفسر سر مزاجية القردة تشيتا حيث أنجبت مولودة كانت ملزمة بالدفاع عنها وتأمين غذائها، ثم ستصبح عصبية وعدوانية بعد فقدان أسرتها قبل أن تستسلم للشيخوخة والوهن وتنسحب بعدها من العالم بصمت وغموض.
تتزين الحديقة اليوم في مدخلها بأسدين رخاميين أهداهما القيصر الألماني للعرائش أثناء زيارته لشمال المغرب عام 1905، نحثا في مدينة دريسدن شرق ألمانيا عام 1892، من رخام منطقة بوهيما في "تشيكوسلوفاكيا سابقا" و أحضرا عبر القطار إلى إسبانيا ثم بالباخرة إلى العرائش، الشيء الذي جعل الساكنة المحلية تطلق على الحديقة تداولا "خاردين السبوعا" أي حديقة الأسود، وهو تحديدا الاسم الذي تحمله الحديقة اليوم.

الأسدين الرخاميين الألمانيين اللذان يزينان مدخل الحديقة حاليا











 أيام خردين تشيتا







 2017





الثلاثاء، 25 يوليو 2017

من ذاكرة وادي لوكوس: سمك الشابل


مجموعة من السكان المحليين بحوزتهم أسماك الشابل على ضفاف وادي لوكوس سنة 1928

على مقربة من مصب وادي لوكوس بالمحيط الأطلسي حيث توجد مدينة العرائش، يقع سد المنع على وادي لوكوس، الذي يؤمن سقي 35000 هكتار من أراضي هضبة اللوكوس الخصبة، وهو سد وقائي لخطر الفيضانات التي طالما عانت منها مدينة العرائش والمنطقة الرطبة لسافلة لوكوس عبر العصور، يعرف السد بهذا الاسم لأنه يمنع مياه المحيط الأطلسي المالحة عن مياه وادي لوكوس العذبة، فهو إذن بناء ذو منافع كبيرة انعكست إيجابا على اقتصاد المنطقة واستقرارها، لكنه للأسف تسبب أيضا في منع رحلة سمك الشابل الذي اشتاقه المغاربة قاطبة وأبناء المنطقة بشكل خاص.

سد المنع على وادي لوكوس

تبدو الأنهار والمجاري المائية الكثيرة التي يزخر بها المغرب، وسطا بيئيا مثاليا لا ينتقص من بهائه وروعته إلا اندثار مجموعة من الكائنات المائية التي شكلت لزمن طويل إحدى المكونات الأساسية لهذه المنظومة الإيكولوجية، لعل أبرزها سمك "الشابل" الذي بدأ يدخل مرحلة النسيان بعد أن عمر الأنهار الرئيسية للواجهة الساحلية الأطلسية إلى جانب نهر ملوية على الضفة المتوسطية منذ مئات السنين قبل اختفائه بشكل نهائي في مطلع تسعينيات القرن الماضي.

فالحديث عن الأهمية البيولوجية للأنهار في المغرب يقود بالضرورة إلى استحضار سمك "الشابل"، المعروف بصنفيه لدى الأوساط العلمية باسمي "ألوزا ألوزا" و"ألوزا فالاكس"، باعتباره أحد أنواع الأسماك التي تربعت لقرون خلت على عرش مملكة الأحياء المائية في الأنهار الرئيسية للواجهة الساحلية الأطلسية، لاسيما أنهار سبو وأم الربيع وأبي رقراق واللوكوس، وكذا لكونه شكل قيمة اقتصادية هامة بالنسبة لساكنة القرى والحواضر المجاورة لهذه الأنهار.


تبدو الأنهار والمجاري المائية الكثيرة التي يزخر بها المغرب، وسطا بيئيا مثاليا لا ينتقص من بهائه وروعته إلا اندثار مجموعة من الكائنات المائية التي شكلت لزمن طويل إحدى المكونات الأساسية لهذه المنظومة الإيكولوجية، لعل أبرزها سمك "الشابل" الذي بدأ يدخل مرحلة النسيان بعد أن عمر الأنهار الرئيسية للواجهة الساحلية الأطلسية إلى جانب نهر ملوية على الضفة المتوسطية منذ مئات السنين قبل اختفائه بشكل نهائي في مطلع تسعينيات القرن الماضي.
فالحديث عن الأهمية البيولوجية للأنهار في المغرب يقود بالضرورة إلى استحضار سمك "الشابل"، المعروف بصنفيه لدى الأوساط العلمية باسمي "ألوزا ألوزا" و"ألوزا فالاكس"، باعتباره أحد أنواع الأسماك التي تربعت لقرون خلت على عرش مملكة الأحياء المائية في الأنهار الرئيسية للواجهة الساحلية الأطلسية، لاسيما أنهار سبو وأم الربيع وأبي رقراق واللوكوس، وكذا لكونه شكل قيمة اقتصادية هامة بالنسبة لساكنة القرى والحواضر المجاورة لهذه الأنهار.


وتشير دراسة صدرت سنة 2001، للباحثين الفرنسيين في مجال الأحياء المائية ريشارد ساباتيي وجون لوك باجلينيير، إلى أن المغرب بحكم موقعه الجغرافي كان يعتبر إحدى أهم مناطق عيش سمك الشابل المتواجد بشكل حصري في السواحل الممتدة من النرويج شمالا إلى المغرب جنوبا، أمر جعل إنتاج المملكة من هذا السمك الثمين يفوق معدل 700 طن في السنة خلال سبعينيات القرن الماضي.
وأكدت الدراسة الصادرة تحت عنوان " بعض الخاصيات البيولوجية لسمك الشابل بالمغرب: تراث ثقافي و سوسيو- اقتصادي اختفى حديثا"، أن أعداد سمك الشابل بدأت تتقلص بشكل تدريجي بفعل الصيد المكثف الذي مارسه البرتغاليون، خصوصا إبان احتلالهم لمدينة أزمور الواقعة عند مصب نهر أم الربيع .وأبرزت الدراسة في هذا الصدد، أن تراجع أعداد سمك الشابل بلغ أعلى مستوياته في سبعينيات القرن العشرين، نتيجة الصيد المكثف والتلوث الناتج عن المخلفات الصناعية المقذوفة في مجاري الأنهار، إلى جانب تشييد السدود المائية التي لا تتوفر على ممرات تسمح بعبور الأسماك صعودا إلى أماكن التفريخ، كما هو الشأن بالنسبة لبعض السدود المشيدة على مجموعة من الأنهار الأوروبية، مضيفة أن سنوات الجفاف التي مرت بها المملكة خلال الثمانينيات كان لها هي الأخرى دور كبير في اختفاء هذا السمك.

وعلى الرغم من تشكيل لجنة حكومية سنة 1987 لدراسة أسباب انخفاض أعداد "الشابل" في الأنهار المغربية، وصدور قرار لوزارة الصيد البحري سنة 1996 تحظر بموجبه اصطياده في جميع الأنهار والشواطئ، اختفى هذا السمك بشكل تدريجي ليتم مشاهدة آخر الأسماك سنة 1992 بوادي سبو. وفي هذا السياق، تؤكد الدراسة أن الصنف الأول من سمك الشابل، المعروف بـ "ألوزا ألوزا" حسب الاصطلاح العلمي، والذي يعد الأكبر حجما بطول قد يصل إلى 70 سنتمتر عند السمكة البالغة، اختفى بشكل نهائي من مياه السواحل المغربية، بينما لا يزال الصنف الثاني الأصغر حجما، والمعروف لدى الأوساط العلمية بإسم "ألوزا فالاكس" متواجدا بأعداد ضئيلة في عرض المحيط، غير أن صعوده يظل شبه مستحيل بالنظر إلى الوضعية التي آلت إليها أنهار الواجهة الأطلسية خلال السنوات الأخيرة


يتذكر العرائشيون بشيء من الحسرة السنوات الخوالي التي كانت فيها أسراب هذا السمك تعمر مياه وادي لوكوس لأزيد من ثلاثة أشهر تضع خلالها بيضها، وهي المدة التي كانت تسجل رواجا تجاريا هاما ينتفع من عائداته رهط كبير من أبناء المنطقة، حيث "كان يعتبر نشاطا موسميا محوريا بالنسبة لهم لا يقل أهمية عن باقي الأنشطة الفلاحية، اعتبارا لمردوده المادي المهم المترتب عن بيعه محليا أو لتجار الجملة الذين كانوا ينقلونه إلى المدن القريبة.
وكما هو الحال في باقي مناطق المملكة، كان هذا السمك المتميز يحظى بمكانة هامة، بل إنه شكل لمدة طويلة السمك المفضل لدى معظم المغاربة، اعتبارا لقيمته الغذائية ومذاقه الخاص الذي يجد تفسيره في نظامه الغذائي القائم على صغار الأسماك والقشريات البحرية، وكذا لكونه سمكا يعيش لمدة طويلة في مياه المحيط قبل توجهه صعودا إلى منابع الأنهار، على غرار سمك السلمون في أمريكا الشمالية.
وتشير بعض الأبحاث في هذا الصدد، إلى أن سمك "الشابل" ساهم بحكم توفره على كميات هامة من مادة "اليود" في التقليل من الإصابة بمرض الغدة الدرقية لدى سكان المناطق الجبلية، على اعتبار أن الأسماك البحرية الغنية بـ "اليود" لم تكن تصل هذه المناطق، وبالتالي فإن هذا السمك القادم من المحيط شكل لزمن طويل مصدرا أساسيا لمادة "اليود" التي تقي من الإصابة بهذا المرض.
وعلى الرغم من مرور قرابة عقدين على اختفاء "الشابل"، لا يزال هذا السمك حاضرا في مخيلة المغاربة الذين عايشوا فترة تواجده بأنهار المملكة، على اعتبار أنه شكل رمزا للخصوبة والصفاء، ودليلا على سخاء وكرم الطبيعة رغم سلوكيات الإنسان العدائية.
يبقى أن سمك "الشابل" لم يعد إلا مجرد ذكريات، في انتظار ظهور دراسات علمية تبحث في إمكانيات إعادته إلى الأنهار المغربية، وهذا الأمر رهين بتوفر إرادة قوية يتم بموجبها تحسين جودة مياه الأنهار وإيجاد الوسط الإيكولوجي المناسب لعيش هذا السمك الذي لا يزال، ولحسن الحظ، موجودا في السواحل الأوروبية الأطلسية رغم كل المتاعب التي تعرض لها.


[عن مقال لإبراهيم الجملي (و.م.ع) تحت عنوان "الشابل ... ذكريات سمك دخل مرحلة النسيان" نشر على موقع "هسبريس" بتاريخ 11 يناير 2011، مع تصرف بسيط فقط ليتماهى مع حالة نهر لوكوس]

السبت، 22 يوليو 2017

المحيط الأطلسي عقدة حكام الجزائر : الجذور التاريخية


    بقلم : عبد الحميد بريري



اقتراح تقسيم الصحراء المغربية سنة 2002 وموافقة حكام الجزائر عليه يؤكد رغبتهم في الوصول إلى المحيط الأطلسي وذلك بواسطة كيان وهمي مصنوع . وهذا ليس وليد اليوم وإنما له جذور تاريخية تمتد لقرون وبالضبط عندما كانت الجزائر ولاية عثمانية تحت سلطة الباب العالي تأتمر بأوامره .
ابتدات هذه الرغبة بالشمال الأطلسي للمغرب حينها طلب سليم الثاني بضم المغرب الشمالي إلى الإمبراطورية العثمانية او على الأقل مينائي العرائش وسلا. (1)

السلطان العثماني ( سليم الثاني )

رفضت فيه الدولة المغربية* أي انضمام للإمبراطورية العثمانية وحافظت على استقلالها الوطني ، وإن سمحت للأتراك وغيرهم لممارسة الجهاد البحري للتضامن مع الأندلسيين المطرودين من ديارهم والمسلوبة أموالهم وممتلكاتهم ، في بادس وتطوان والعرائش وسلا (2) : سنة 1516 خير الدين بارباروسا المجاهد البحري سيدخل مرسى العرائش بسفن جهادية (3) ويعود إليها سنة 1531 مؤسسا بذلك قاعدة للجهاد البحري في المحيط الأطلسي (4) بغرض الجهاد البحري بتنسيق مع المغاربة والأندلسيين . ووافق عبد الملك السعدي عندما كان بالقسطنطينية التحالف مع الأتراك لمحاربة الإسبان والسماح للأسطول العثماني بارتياد مرسى العرائش وسلا للغرض نفسه عندما يتولى حكم المغرب مقابل مساعدته في مواجهة ابن أخيه المتوكل وقد فعل سنة 1577 (5 ) الشيء الذي تضايق منه الإسبان وسلكوا العمل الدبلوماسي لإقناع عبدالمالك بخطورة الوجود التركي في العرائش على عرشه واستقلال المغرب بواسطة الأخوان كورسو وبالفعل سيتخلص منهم بما وعدهم من أموال ، فيما الأمريشعل حماس سبستيان ومسابقة الأتراك لاحتلال العرائش بحملة عسكرية خوفا على مصالحه التجارية وتنفيذا لتعليمات الكنيسة الكاثوليكية فكانت بذلك معركة وادي المخازن. (6)

خير الدين بربروس (1470 في جزيرة لسبوس - 1546 في إسطنبول) (اسمه الأصلي خضر بن يعقوب لقبه السلطان سليم الأول بخير الدين باشا وعرف لدىالأوروبيين ببارباروسا أي ذو اللحية الحمراء) هو أحد أكبر قادة الأساطيل العثمانية وأحد رموز الجهاد البحري ، تولى منصب حاكم إيالة الجزائر ثم عينه السلطانسليمان القانوني كقائد عام لجميع الأساطيل البحرية للخلافة العثمانية

بعد هذا ستعقبه فترة عرفت فيه الجزائر نوع من الإستقلال في اتخاذ القرارالذي أصبح في يدي القراصنة بفعل وضع الجزائر العاصمة التي أصبحت تعج بالسفن القرصانية يقودها أجانب دخلوا الإسلام حديثا ويسكنها أكثر من 60000 ساكن منهم الأعلاج (مسلمة النصارى) بالإضافة إلى 25000 من اسرى النصارى الذين كانوا يقيمون في الضواحي و10000مشرقي والأندلسيين ، جميعا يشكلون أغلب سكان الجزائر العاصمة (7)همهم الربح والغنيمة بعدما كانت بالأمس عمل مقدس في مواجهة الإسبان والبرتغال المعتدين على الأندلسيين (8) لذلك غير حكام الجزائر سياستهم اتجاه المغرب بتأليب الباب العالي واستعمال القوة للسيطرة على مجال حيوي : سنة 1581 علوج علي وزير البحر وقائد الأسطول العثماني سيتحرك باسطوله البحري في اتجاه المغرب لاحتلال الشمال المغربي والعرائش خاصة في إطار سباق مستمر- خاصة بعدما أبدى المنصور السعدي استعداده للتنازل على العرائش لكسب رهان الحرب الدبلوماسية والحد من الطمع الإسباني لها بالقوة بعدما خرج المغرب من معركة وادي المخازن منهكا وبالفعل لم يتنازل عليها حين أحسن تحصينها وأخذ بأسباب القوة للمواجهة - بينهم وبين الإسبان للظفر بها باعتبارها هدفا استراتيجيا كاد أن يؤدي إلى حرب بحرية كبيرة بينهما (9) . أمام هذا المستجد ،المنصور الذهبي سيرسل تعزيزات عسكرية إلى الريف ثم إلى الفحص وإلى العرائش أي خاصة المناطق التي كان يتوارد عليها القراصنة الجزائريون . لن يكتفي المنصور بهذه التدابيرالوقائية وإنما سيحرك آلته الدبلوماسية لأنه يعلم علم اليقين أن الأمر آت لا محالة من حكام الجزائر الذين عملوا على إثارة الوقيعة بين الإمبراطورية العثمانية والمملكة المغربية . الأسطول العثماني وهو يبحر نحو المغرب سيعترض طريق السفارة المغربية ويمنعها من الذهاب إلى الباب العالي خوفا من معرفة حقيقة الوشاية التي اختلقها حكام الجزائرووضع النقط على الحروف لتصحيح ما يكون قد وقع في أذن الخليفة العثماني . وبالفعل نجحت السفارة المغربية في إفشال الحركة على المغرب ورد كيد حكام الجزائرعندما تسلل ابن ودة علي باشي من الجزائر حيث كانت السفارة بعد إيقافها في عرض المتوسط (10) . أبقى المغرب علاقته مع الباب العالي في حدود الاحترام المتبادل وسلك طريق المهادنة وتبادل الهدايا بين الطرفين كما وقع سنة 1584 ميلادية وأي شكوى مغربية بتجاوزات حكام الجزائرإلا وتلقى الأذن الصاغية من طرف حكام الاستانة.


السلطان أحمد المنصور الذهبي بن محمد الشيخ المهدي بن محمد القائم بأمر الله الزيداني الحسني السعدي، واسطة عقد الملوك السعديين، وأحد ملوك المغرب العظام وباني قصر البديع. ولد بفاس عام 956/1549، وبويع في ساحة معركة وادي المخازن الظافرة يوم الاثنين متم جمادى الأولى سنة 986/ 4 غشت 1578 بعد وفاة السلطان عبد الملك. يعتبر عهده الذي دام حوالي ست وعشرين سنة أزهى عهود الدولة السعدية رخاء وعلما وعمرانا وجاها وقوة.

وقد سجل لنا التاريخ مواجهات عسكرية ومناوشات من حين لأخر بين الطرفين بسبب تدخل حكام الجزائر في الشؤون الداخلية بتغدية الثورات على سلاطين المغرب (أبوحسون الوطاسي والخضر غيلان ) لكن سرعان ما تتوقف كالتي وقعت بين الجيش السعدي في عهد محمد الشيخ عند وصل المغاربة إلى تلمسان وضمها إلى المغرب ردا على دخول الأتراك مدينة فاس مع أبوحسون الوطاسي مساعدين له . كما وقعت مواجهات بين المولى اسماعيل وأتراك الجزائرحيث هاجمهم مرتين سنة 1679 و 1691 (12)
القرصنة كانت أهم مورد مالي لإمارة الجزائروفرع من النشاط التجاري . كان في الأول في البحر الأبيض المتوسط لكن بعد اكتشاف مواقع في غرب افريقيا وشرق اسيا يستورد منها الذهب والرقيق والعطور والبهارات من طرف السفن الأروبية ، أصبح المحيط الأطلسي مجال خصب ومدر للثروة يسيل لعاب كل قرصان جزائري وبالتالي العمل بكل الطرق ومختلف الوسائل للوصول إليه أو موطئ قدم فيه* . وقد سجلت لنا بعض المراجع عملياتهم القرصانية في المحيط ألأطلسي التي انطلقت من العرائش كالتي أشارت إليها رسالة ٌنيابة عن تجار اشبيلية غابرييل دو بالماسيدا و دييغودي بزيرل يشكوان فيها للملك الإسباني الفظائع التي ترتكبها السفن الأربعة التابعة لقائد بادس التركي والسبع أو الثمان سفن الخاصة بالعرائش وسلا وتطوان ضد السفن الإسبانية على طريق الملاحة والتجارة الهندية ٌ(13) . سنة 1577 سفن قبطان الجزائر التي كان قد طلبها من تركيا عبد المالك السعدي والتي كان عددها مابين 50 و 60 إلى موانئ تطوان والعرائش وسلا بعد انتصاره عل المتوكل في خندق الريحان ، هاجمت التي بالعرائش سفينة برتغالية المسماة فانطونا بلورونتينا المحملة بمنتجات التجارة البرتغالية مع الشرق حين أغرقتها وكرت عائدة بالغنيمة إلى الجزائر وكان في مينائي العرائش وسلا خلال سنة 1576 فرقطات جزائرية و3 سفن حربية أخرى في ملك صهر عبدالمالك السعدي ابن مراد التركي وهي إحدى مكونات أسطول ، كان سيهاجم به سواحل الأندلس في بحر شهر وقد صدرت الأوامر للسفن لإعداد عدتها وان مبعوثا تركيا ذا مقام عال قد وصل من الجزائر قبل 3 ايام كان قد غادر القسطنطينية من نحو 40 يوما ليتولى قيادة السطول المذكور. (14)



الحصول على منفذ في المحيط الأطلسي إذن ، هدف جيوستراتيجي لحكام الجزائرله جذور تاريخية كان من بقايا صراع القوى الثلاث للقرن 16 في غرب البحر الأبيض المتوسط حول المغرب أو ماسماه الدكتور ابراهيم شحاته حسن : الظاهرة الإستعمارية على أبواب المغرب ، نظرا لموقعه الإستراتيجي ولغنى موارده الطبيعية : الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الإسبانية والإمبراطورية البرتغالية . الإمبراطورية الأخيرة انتهت بقيامها بحملة عسكرية كانت سببا لوقوع معركة وادي المخازن . الإسبان تفادوا المواجهة العسكرية مع المغرب واكتفوا باقتطاع اجزاء استراتيجية في شمال المغرب وجنوبه لمحاصرة المغرب وإضعافه ليلا يعود للعب الأدوار الإستراتيجية في ما كان يسمى بالغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط ، فيما الإمبراطورية العثمانية توقفت أطماعها في المغرب بعد سد المغرب أية نافذة لضمه إليها ليرث حكام الجزائر هذه الرغبة للعب أدوار أكبر من عمر الدولة الجزائرية ومحاصرة المغرب جنوبا والوصول إلى الأطلسي وتحقيق لم تحصل عليه الإمبراطورية التي كانت تابعة إليها والقيام بالرغبة الإسبانية نفسها في محاصرة المغرب جنوبا لإضعافه ، ولا غرابة أن نجد الدولة الإسبانية تدعم البوليساريو بموقفها الحيادي وتشترك مع حكام الجزائر في الهدف نفسه بعدما فشلت في تحقيقه.

1 - معركة وادي المخازن بين الملوك الثلاثة ليونس نكروف ترجمة د/ وفاء موسى ويشو وحسن حيدر ص :71
* يسجل هنا موقف السلطان السعدي محمد الشيخ حين رفض الدعاء للخليفة العثماني سليمان القانوني مما استشاط غضبا وأرسل إليه من يأتي براسه فكان ذلك وكان السلطان المغربي قد أغلظ له القول وبتهديده بالوصول إلى مصر التي كانت تابعة للعثمانيين .
2 - معركة وادي المخازن بين الملوك الثلاثة المرجع السابق ص : 90
3 - حوليات أصيلا برناردو رودريغز تعريب الدكتور احمد بوشرب
4 - وقعة وادي المخازن في تاريخ المغرب د/ أستاذ التاريخ الحديث ابراهيم شحاتة حسن ط : 1 1979 البيضاء ص :
5 – وقعة وادي المخازن في تاريخ المغرب مرجع سابق ص : 184
6 – وقعة وادي المخازن في تاريخ المغرب مرجع سابق ص : 225
7- تاريخ افريقيا الشمالية من الفتح الإسلامي غلى سنة 1830 شارل أندري جوليان تعريب محمد مزاالي والبشير سلامة الدار التونسية للنشر سنة 1398/ 1978 ص : 333 إلى 341
8 – قراصنة سلا روجي كوادرو ترجمة محمد حمود مطبعة ومكتبة الأمنية سنة 1991 ص : 10
9 – من العرائش إلى فضالة 4عقود ونصف من الإستراتيجية الإسبانية في احتلال مراسي مغربية (1578- 1624) د/ الحسين بوزينب كلية الاداب الرباط مجلة التاريخ العربي العدد 13 شتاء 1420/ 2000 ص : 215
10 – مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفاء عبدالعزيز الفشتالي مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة ص 61 إلى 64
11- دولة بني وطاس اوغست كور تعريب محمد فتحة منشورات كلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط ط/1 مطبعة النجاح الجديدة سنة 2010ص : 136 و 137
12- تاريخ شمال افريقيا الشمالية مرجع سابق ص/ 297 و 298
* يراجع في هذا الشأن كتاب قراصنة سلا مرجع سابق
13 – وقعة وادي المخازن مرجع سابق ص : 167
14 – وقعة وادي المخازن مرجع سابق ص : 173/174/ 175/ 176/ 177

الخميس، 20 يوليو 2017

منارة العرائش



منارة رأس الناظور بالعرائش، واجهة مميزة غير مستغلة لتسويق المدينة وطنيا و دوليا

    محمد عزلي



منارة رأس الناظور بالعرائش "El Faro de Punta Nador de Larache"
صرح معماري متميز، وشاهد عيان على مرحلة الطفرة والانطلاق إلى مصاف الحواضر العالمية، بنته الإدارة العامة للأشغال العمومية الإسبانية سنة 1914 بميزانية أولية قدرها 290208 بسيطة إسبانية، وذلك بدل المنارة البدائية القديمة التي كانت متواجدة بنفس المكان في موقع رأس الناظور منذ سنة 1882 زمن السلطان العلوي مولاي الحسن الأول، مرت عملية البناء عبر ثلاث مراحل سنوات 1914، 1919، و 1929 الذي أخذت المنارة فيه شكلها الحالي.


المنطقة العسكرية (رأس الناظور) حيث معسكر الجيش و المنارة سنة 1928

مهندس المنارة
شيدت منارة العرائش على يد المهندس خوسي إوخينيو ريبيرا دوتاستJosé Eugenio Ribera Dutaste " ، من مواليد باريس (1864-1936) واحد من الباحثين الأوائل في الخرسانة المسلحة بإسبانيا، وواحد من بين أفضل مهندسي الأشغال العمومية الكبرى في التاريخ الإسباني المعاصر، هاجر في شبابه رفقة عائلته إلى البرتغال لأسباب ارتبطت بدوافع وتوجهات والده الاقتصادية والإيديولوجية، وهناك التقى بأعظم مهندسي العالم آنذاك من خلال مشروع السكك الحديدية البرتغالية. عاد بعدها ليستقر بإسبانيا حيث أسس شركة الإنشاءات الهيدروليكية المدنية ليحترف ويتعمق أكثر في الدراسات المتعلقة بالخرسانة المسلحة؛ قام بجولة عبر أوروبا وأمريكا وإفريقيا ليفيد ويستفيد في هندسة الصلب والخرسانة والهياكل المعدنية للجسور خاصة، حيث كانت له أبحاثه ونظرياته في علاج أو تخفيف الأكسدة، الشيء الذي تسبب في التعديلات الشاملة للتطبيقات الخراسانية التي شملت الإنشاءات الهندسية المعمول بها عالميا خلال القرن العشرين؛أكمل خوسي أوخينيو مسيرته المهنية كمدير وأستاذ في تخصص بناء الجسور والخرسانة المسلحة  بالمدرسة الإسبانية للطرق في مدريد، وقد نشرت له العديد من أبحاثه ومقالاته بمجلة الأشغال العمومية الإسبانية.

لوحة زيتية لمهندس منارة العرائش (خوسي إوخينيو ريبيرا دوتاست)


ورقة تقنية
شكل بناء منارة رأس الناظور بالعرائش ثورة في هندسة المنارات على مستوى العالم آنذاك، لاعتمادها على تقنيات البناء الخرساني الحديثة، وقد تَطَبَّعَ فيها المهندس المبدع بتصميم منارة جنوة الإيطالية التي تظهر جلية في رسم يعود إلى سنة 1481 [انظر الصورة (1) في الملحق الوثائقي]، خاصة وأن موقع منارة العرائش كان مركزا تجاريا لمملكة جنوة بالساحل العرائشي خلال العصور الوسطى يضم برجا دفاعيا محصنا فيه منارة إرشادية للمراكب كما هو واضح من خلال تصاميم مدينة العرائش قبل الاحتلال الإسباني في القرن السابع عشر، وكما هو معمول به في بناء الأبراج الجنوية في العديد من النقط التجارية الساحلية في البحر الأبيض المتوسط؛ ومن جهة أخرى تميزت منارة العرائش في عهد إنشائها بتوفرها على معدات اعتبرت الأفضل والأكثر تطورا وفعالية في عصرها؛ استخدمت أول مصابيحها من شعلة تعمل على الزيت، قبل أن تستقدم آليات فرنسية متطورة شغلت في بادئ الأمر بشكل يدوي، ثم تطورت مع ظروف العصر إلى تشغيل ميكانيكي، ثم كهربائي، إلى أن أصبح تشغيلها إلكترونيا؛ المصباح الرئيسي للمنارة قوته 220000 وات يعمل على محول كهربائي يزوده ب 3600 فولت، إيقاعه الحركي (ومضة على كل 27 ثانية)، يبلغ مداه 63 ميل بحري أي ما يعادل أزيد من 100 كلم، هذا وتتوفر المنارة على مصابيح احتياطية أصغر تعمل في حال تعطل المصباح الرئيسي.
ترتفع المنارة بحوالي 120م عن سطح البحر، 50م عن سطح الأرض، طول البرج عن قاعدته 33م يميزه وجود ثلاث شرفات، الأولى عند قاعدة الصومعة الثمانية الأضلاع، والثانية تقع في المنتصف على علو 20.80م تتخللها 8 نوافذ، ثم شرفة عليا حيث توجد المصابيح منهية الجزء الأعلى من الصومعة الذي تتخلله نوافذ أربعة، ويبلغ طولها 10.40م أي نصف طول الجزء السفلي بالضبط، وقد روعي في هندستها ومواد بناءها عنصر مقاومة الرياح القوية والعواصف والاهتزازات الدورية، وهي – أي شرفات الصومعة- مكان مدهش يجعلك تستمتع بواحدة من أروع مشاهد الجمال المغربي والكوني.
كل هذا أكسب منارة رأس الناظور بالعرائش سبقا وتميزا على قريناتها في بقية أرجاء الكوكب بشهادة المتخصصين، وهي لا تزال إلى اليوم تحظى بموقع وترتيب مهم ضمن الكاتالوغ العالمي للمنارات البحرية، إنها نموذج حي لتنوع الأشكال المعمارية ذات التميز العالمي بمدينة العرائش، كما أنها لا تزال محتفظة بكامل رونقها وعافيتها أو تكاد.
لماذا إذن لا تستغل المنارة كواجهة لتسويق المدينة وطنيا ودوليا؟
لماذا لم يتم تحولها إلى مزار سياحي ينعش اقتصاد المدينة وحركية أبناءها؟
ألا يمكننا استغلالها على سبيل المثال، كمتحف بحري على غرار نماذج عديدة على مستوى العالم؟


رسم لمدينة جنوة يعود إلى سنة 1481م تظهر فيها المنارة في أقصى يسار الصورة مطابقة تماما لشكل منارة العرائش الحالية

1
2
3


4


5

أشغال البناء سنة 1914
6

7

8

9

منظر بانورامي رائع ملتقط من صومعة المنارة 
10

11

12

13

14

مصادر ومراجع

·       Faro de hormigón armado en Larache. Ribera Dutaste, José Eugenio. Fuente: 1935, 83, tomo I (2667): 156-159. Toponimos: Marruecos.
[انظر الصور 2، 3، 4، 5] وهذا رابط لتحميل الوثيقة:

·       «José Eugenio Ribera y la R.O.P.»Revista de Obras Públicas (150 (3434)): 117-120.
رابط لتحميل الوثيقة:

·       روبورتاج للتلفزة المغربية بث سنة 2012 حاورت من خلاله كل من السيد عبد الإله عمر [رائد الميناء بالعرائش] والسيد محمد مخلص [تقني بمنارة رأس الناطور بالعرائش].
رابط لمشاهدة الشريط:
https://www.youtube.com/watch?v=ONbqT_aOmow&t=17s

      ·       Broch Les Phares du maroc basse def .
رابط لتحميل الوثيقة
http://www.equipement.gov.ma/ports/Publications/Documents/Broch%20Les%20Phares%20du%20maroc%20basse%20def%20ok.pdf