الاثنين، 31 أغسطس 2020

ابن حيان القرطبي


  •  عنوان الكتاب: المقتبس في أخبار بلد الأندلس
  •  المؤلف: أبي مروان حيان بن خلف ابن حيان الأندلسي
  •  المحقق: د/ صلاح الدين الهواري
  •  الناشر: المكتبة العصرية، صيدا - بيروت.
  • الطبعة: الأولى 2006.
  •  عدد الصفحات: 208
  •  رابط التصفح أو التحميل:

ابن حيان القرطبي. شيخ مؤرخي الأندلس
نشر هذا المقال في موقع قصة الإسلام islamstory.com بتاريخ 25 أكتوبر 2016

يتبوأ ابن حيان القرطبي الأندلسي مكانة مرموقة بين مفكري الأندلس؛ نتيجة لما أخرجه من تراث تاريخي لا يمكن الاستغناء عنه في دراسة تاريخ المغرب والأندلس، وهو بلا شك -كما يؤكد دكتورمحمود علي مَكي: "أعظم مؤرخ أنجبته الأندلس، بل والغرب كله الإسلامي والمسيحى منه على السواء"، وقد أشاد المستشرق الهولندي دوزي Dozy (ت 1883م) بصدق الرواية عند ابن حَيَّان؛ ناهيك عن شهادة المؤرخ والفيلسوف ابن خلدون (ت 808هـ / 1406م) في مقدمته فقال أنه: "قَيَّد شوارد عصره واستوعب أخبار أفقه وقطره". فمن هو ابن حيان شيخ مؤرخي الأندلس وعمدتهم؟
نسب ابن حيان ونشأته:
هو الإمام، المحدث، المؤرخ، النحوي، صاحب التصانيف، أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان بن محمد بن حيان بن وهب بن حيان القرطبي الأندلسي الأخباري الأديب، شيخ الأدب ومؤرخ الأندلس ومسندها. ابن أسرة عُرفت بقربها من السلطة، فقد كان جده الكبير حيان مولى للأمير عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان مؤسس الدولة الأموية في الأندلس. ولد ابن حيان في قرطبة حاضرة الأندلس سنة 377هـ / 987م، وكان أبوه خلف بن حيان كاتبًا لشؤون المال والإدارة لدى المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس المطلق، أي أحد وزرائه بمفهوم عصرنا، وتوطدت علاقة الوالد بالمنصور فلازمه في غدواته وغزواته إلى الممالك النصرانية في الشمال.
شيوخه وتلاميذه:
ذكره الحافظ أبو علي الغساني في شيوخه وقال: "كان عالي السن، قوي المعرفة مستبحرا في اللآداب بارعا فيها، صاحب لواء التاريخ بالأندلس، أفصح الناس فيه، وأحسنهم نظما له. لزم الشيخ أبا عمر بن أبي الحباب النحوي صاحب أبي علي البغدادي، ولزم أبا العلاء صاعد بن الحسن الربعي البغداذي وأخذ عنه كتابه المسمى بالفصوص، وسمع الحديث علي أبي حفص عمر بن حسين بن نابل وغيره".  وروى عنه أبو محمد عبد الرحمن بن عتاب، وأبو الوليد مالك بن عبد الله السهلي، والحافظ أبو علي الغساني، وقد أثنى عليه الحافظ الغساني في فصاحته وصدقه وبلاغته وقال: وسمعته يقول:" التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة، والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة".
ولم يذكر الذين ترجموا لابن حيان أنه تنقل في مدن الأندلس، أو غادرها إلى بلاد المشرق، كغيره من العلماء والأدباء. وقد كتب ابن حيان في كتبه عن أبيه روايات تاريخية عدة عن أحداث وقعت في قصور الخلافة الأموية في الأندلس، ساهمت في إيقاظ حاسته التاريخية، ومكنته من الوقوف على شؤون الدولة ودراسة مختلف التيارات السياسية.
كما سنحت لابن حيان، وهو معاصر لدول الطوائف، ومدوِّن لأحداثها، فرصة لدراسة أحوال هذه الدويلات عن قرب، فقد ولى الوزارة لبني جهور سادة قرطبة وحكامها عن طريق نظام الجماعة أو الشورى، وكان أحد معاوني أبي الوليد محمد بن جهور ابن أبي الحزم بن جهور مؤسس حكومة الشورى، واستمر في وظيفة الوزارة حتى انهيار دولة بني جهور، إثر افتتاح المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية لها في سنة 462هـ /1070م، وعلى إثر هذا الفتح أرسل ابن حيان برسالة تهنئة إلى المعتمد بن عباد.
عصر ابن حيان السياسي والفكري:
وُلد أبو مروان ابن حيان القرطبي سنة 377هـ/ 987م، وتوفي سنة 469هـ/ 1076م، وعلى ذلك فإنه شهد في مطلع شبابه وحدة الأندلس ومنعتها على عهد الدولة العامرية، ثم شهد قيام الفتنة وزوال خلافة قرطبة وقيام دول ملوك الطوائف في الأندلس. آلمه كثيرًا ما آلت اليه حال الأندلس من تمزق وفرقة بعد أن نعمت بالوحدة والمنعة أيام الخلافة الأموية، التي يسميها ابن حيان بأيام الجماعة، فأخذ في تدوين تاريخ عصره بعمقٍ وإسهاب.
أما الوضع السياسي:
فقد شاهد ابن حيان في شبابه تغيرات سياسيّة خطيرة كان لها آثارها الخطيرة على الوجود الإسلامي في الأندلس، إذ انهارت الدولة العامرية المسيطرة على شؤون الحكم في الأندلس، وأعقبها ترنح الخلافة الأموية على مدار 40 عامًا، ثم سقطت لينفرط عقد المدن الأندلسية ووحدة البلاد السياسية، فقامت على أنقاض الأندلس دويلات عدة عرفت بدول الطوائف وكان بعضها لا يزيد على كونه مدينة ودولة، فيما أخذت البقايا الأسبانية تعيد تنظيم قواتها وتبدأ في توجيه جيوشها صوب الأراضي الأندلسية.
وعلى الصعيد الاقتصادي:
وبعد انهيار الخلافة ثم سقوطها حدثت الانتكاسة وعم الكساد الاقتصادي وتدهور العمران، وحفل العصر بالأزمات إلى حدِّ المجاعة وأفل نجم قُرْطُبَة عمرانيًا وبشريًا، وصور ابن حَيَّان الوضع قائلًا: ".. وطمست أعلام قصر الزهراء..، فطوي بخرابها بساط الدنيا وتغير حسنها؛ إذ كانت جنة الأرض، فعدا عليها قبل تمام المائة من كان أضعف قوة من فارة المسك، وأوهن بنية من بعوضة النمروذ، والله يسلط جنوده على من يشاء، له العزة والجبروت".
وعلى الصعيد الاجتماعي:
شهد المجتمع الأندلسي في ظل الخلافة والحجابة مرحلة المزج والانصهار بين العرقيات المتنوعة ليحدث نوع من التجانس لم تشهده الأندلس من قبل؛ إلا أن السخائم العرقية والإقليمية عادت مرة أخرى لتؤثر سلبيًا في هذا التجانس، ولتمزق وحدة الأندلس من جديد بظهور النزعة العنصرية؛ ولذا لم يغب عن ابن حَيَّان أيضًا أن يعبر عن تلك النزعة في الأندلس في تلك الفترة؛ وذلك من خلال حديثه عن اجتماع خازنَي بيت المال في عهد الأمير محمد، وهما "عبد الله بن عثمان بن بسيل، ومحمد بن وليد بن غانم "واستدعى الأمر أن يكتب ابن غانم كتابًا قدم نفسه فيه، فما كان من ابن بسيل إلا أن قال له: "والله لا أطبع كتابًا تتقدمني أنت فيه، وأنا شامي وأنت بلدي". كما أشار أيضًا إلى الفتنة بين اليمنية والمضرية.
أما الحالة الثقافية:
فالعجيب أنه وعلى النقيض من الوضع السياسي؛ لم تكن الثقافة الأندلسية يومًا أشد إشعاعًا، وأقوى خصوبة كما كانت عليه في تلك الفترة. ففي الغالب تكون الأزمة "تحديًا" يوجب "الاستجابة" -حسب مفهوم أرنولد توينبي، وغالبًا ما تناط النخبة المفكرة بريادة الاستجابة على الصعيد المعرفي. ويجمع الدارسون على ازدهار الحركة الثقافية في عصر ملوك الطوائف وذلك راجع إلى تداعيات وظلال العصر السابق، بما يؤكد أن الظواهر الفكرية في تطورها وفي أفولها تحتاج إلى فترة زمنية طويلة.
هذا وقد مجد الأندلسيون العلماء والفقهاء ورجال الأدب، وكان لهؤلاء القيادة والريادة في المجتمع الأندلسي. أما العلماء فقلَّ من تجده متبحرًا في علم واحد أو علمين؛ بل فيهم من يعد من الفقهاء والمحدثين والفلاسفة والأدباء والمؤرخين واللغويين، ولم يقتصروا على العلوم النظرية بل كانت لهم دراسات في علوم عملية كالفيزياء، وعلم العقاقير والصيدلة، والزراعة (علم الفلاحة) والذي أبدعوا فيه وصنفوا التصاميم المشهورة، مسجلين ما توصلت إليه تجاربهم في النباتات والتربة.
وهذا التعدد المعرفي لعب دورًا مهمًا في إثراء فكر ابن حَيَّان خاصة وأنه كان مكثرا من الاطلاع على تلك الكتب، وسهلت له تلك النهضة العلمية الاطلاع على تاريخ الممالك النصرانية أيضًا، مما يرجح أنه كان يعرف عجمية الأندلس وأن ما أورده ابن حَيَّان من أخبار عن إسبانيا النصرانية ينم عن معرفته الدقيقة بكل أحوالهما وأنساب حكامها.
وكان لكثرة مطالعاته التاريخية أن تجنب الروايات الخرافية والأسطورية ولم يشع ذلك في كتاباته؛ مما كون وعى تاريخى ناقد لديه ومكنه من أن يصور ما وُجد فى البلاط الأندلسي من دسائس وفتن بين الحجاب والوزراء تصويرًا نقديًا لا يعتمد على القص فقط.
كما كانت قرطبة في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، غدت أحد أعظم مراكز العلم والحضارة في العالم الإسلامي، وأضحت جامعتها الشهيرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري إحدى أعظم جامعات الأندلس قاطبة. فاستفاد ابن حيان من هذا الجو العلمي سواء الذي وفره له والده، أو الكفاءات العلمية المتوافرة في قرطبة، فانكبّ على دراسة الحديث والأدب واللغة، وبرع في الأدب والرواية حتى غدا أحد أعلامها ومحققيها. وكانت نشأته في أسرة ميسورة الحال ترتبط بالأوساط العليا في قرطبة تتيح له الاطلاع على أفضل ما في مكتبات قرطبة، خصوصًا المكتبة الملحقة بقصر الخلافة، كبرى مكتبات العالم آنذاك ولم تقارن إلا بمكتبات بغداد والقاهرة.
والخلاصة أن الفكر التاريخي قد ازدهر إبان تلك الحقبة التي شهدت "القرن الذهبي" في تاريخ الفكر الإسلامي، وخير نموذج هو حامل لواء التاريخ في الأندلس "ابن حَيَّان القرطبي".
مكانة ابن حيان العلمية والفكرية:
أجمع معظم الذين ترجموا لابن حيان القرطبي الأندلسي على أنه كان إمام المؤرخين في الأندلس؛ لما تميزت به كتاباته التاريخية من سعة ودقة وتفصيل وجودة وجمال وأسلوب. لذا يحظى بتقدير كبير من المؤرخين، وعموم الكتاب ببلده يعتمدونه في الأخبار، وينقلون عنه تراجم الرجال، ويعجبون بأدبه وأسلوبه البليغ، حتى قال فيه تلميذه أبو علي الغساني (ت 498هـ / 1105م)، وهو من هو علما ودينا وقد ذكره ضمن شيوخه: "كان عالي السن قوي المعرفة، مستبحرا في الآداب بارعا فيها، صاحب لواء التاريخ بالأندلس، أفصح الناس فيه وأحسنهم نظما (أي تأليفًا) له".
ونقل ابن بشكوال عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عون قوله: "كان أبو مروان بن حيان فصيحا في كلامه، بليغا فيما يكتبه بيده. وكان لا يعتمد كذبا فيما يحكيه في تاريخه من القصص والأخبار". وقال الحميدي في جذوة المقتبس: "صاحب التاريخ الكبير في أخبار الأندلس وملوكها، وله حظ وافر من العلم والبيان وصدق الإيراد..، وأدركناه بزماننا". أما ابن الآبار فيسميه "جهينة أخـبار المروانية، ومؤرخ آثارها السلطانية".
وقيل إن ابن حيان ثلب أبا الحزم بن جهور، فتوعّده حفيده عبد الملك بن جهور، وحلف أن يسفك دمه، فأحضره أبوه أبو الوليد محمد وقال: والله، لئن طرأ على ابن حيّان أمر، لا آخذنّ أحدا فيه سواك، أتريد أن يضرب بنا المثل في سائر البلدان: بأنّا قتلنا شيخ الأدب والمؤرخين ببلدنا تحت كنفنا، مع أن ملوك البلاد القاصية تداريه وتهاديه؟ وأنشد له نظما، وقال: سبحان من جعله إذا نثر في السماء، وإذا نظم تحت تخوم الماء".
ونوه به ابن حزم في رسالته في فضل الأندلس وذِكر رجالها، بقوله: ""ومنها كتاب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس تأليف أبي مروان بن حيان، نحو عشرة أسفار، من أجلّ ما ألف في هذا المعنى. وهو في الحياة بعد، لم يتجاوز الاكتهال". وكذلك نوه به الشقندي في رسالته المعروفة. وعده ابن خلدون مؤرخ الأندلس والدولة الأموية.
ولا يستغرب من أهل الأندلس أن يحيطوا نابغة من نبغائهم بهذه الهالة من التقدير، وهم الذين عرفوا بفرط الاعتزاز ببلدهم، والاعتداد برجالاتهم إلى حد التعصب. على أنه في الواقع شخصية فذة لا جدال في قيمة ما قدمه إلينا من مادة تاريخية دسمة، تتوزع ماضي الأندلس من لدن الفتح العربي إلى زمنه، وحاضرها المعاصر له، في كتابيه "المقتبس" و"المتين"، بمجلداتهما العديدة التي لم يصلنا منها إلا أقل القليل.
ونُقل عن دوزي أنه قال: "إن كتاب العرب يمتدحون في كتب ابن حيان صدق الرواية بقدر ما يعجبون بجمال أسلوبه وجزالة لغته ورنين عباراته. وأنا أؤيدهم في ذلك كل التأييد، ولا أتردد في القول بأنه كتبه -لو بقيت- لألقت على تاريخ الأندلس الغامض ضياء باهرا، وصورته لنا أحسن تصوير، ولوجدنا أنها تبلغ من الامتياز مبلغا يجعلنا نستغني بها عن غيرها من الكتب التي تتناول تاريخ هذه العصور".
وبالجملة فهو من كبار المؤرخين الذين ظهروا في مغرب الوطن العربي، وإن لم يكتب تاريخا عاما يشمل البلاد العربية والإسلامية، كما فعل ابن جرير الطبري وابن الأثير وابن كثير  وأبو الفداء وابن خلدون وغيرهم من أئمة التاريخ العام، لكنه وقد قصر تاريخه على بلاده الأندلس، سدّ فراغا لولاه لم يسدّ وعمل في دائرته الخاصة عملا متقنا، فلحق بركب المؤرخين المجيدين والمؤلفين المتميزين في هذا الشأن، ويبالغ بعض الكتاب في شأنه فيجعلونه أعظم مؤرخ ظهر في الأندلس.
مؤلفات ابن حَيَّان (التصنيف والمحتوى):
ارتكزت كتابات ابن حيان على الأندلس وما مرّت به من أحداث منذ فتحها سنة91هـ/ 711م وحتى عصر الطوائف. لذلك اعتبر أحد أكبر مؤرخي الأندلس، خصوصًا أن مؤرخي الأندلس اللاحقين لم ينسجوا على منواله، وينهجوا نهجه، واكتفوا بالكتب الإقليمية الضيقة، فلم يضطلع أحد منهم بكتابة موسوعة مثل موسوعته، لكن ثمة مؤرخ يشبه ابن حيان في أسلوبه النقدي القوي، وهو الوزير لسان الدين بن الخطيب مؤرخ غرناطة.
وقد ترك ابن حيان مؤلفات كثيرة في التاريخ، وغيره، قاربت الخمسين مؤلفا، فُقد معظمها، ولم يبق منها إلا اليسير. واشتمل محتوى تلك الأعمال من مختلف الجوانب حيث اشتملت على جوانب عديدة، سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية. وأهم تلك المؤلفات هي: "المقتبس في تاريخ الأندلس" وكتاب "المتين"، وكتاب "البطشة الكبرى"، وكتاب "أخبار الدولة العامرية"، وكتاب في "تراجم الصحابة"، وكتاب "تاريخ فقهاء قرطبة". ومجموع هذه الكتب يشكل ما يطلق عليه اسم "التاريخ الكبير" لابن حَيَّان.
كتاب المقتبس في أخبار الأندلس:
خصص ابن حيان كتابه الرئيس والأكثر شهرة "المقتبس في أخبار الأندلس" لمعالجة تاريخ الأندلس منذ الفتح الإسلامي حتى نهاية عصر الخليفة الحكم المستنصر. ويقدم لنا فيه أوسع رواية عن تاريخ الأندلس في القرون الهجرية الأربعة التي يغطيها الكتاب بصورة لم تتكرر في كل ما وصلنا من كتب عن تاريخ الأندلس. وهو كتاب من أعاظم كتب التاريخ، لم تصلنا سوى أجزاء متفرقة منه. وموضوعه تاريخ الأندلس منذ الفتح العربي سنة 91هـ حتى آخر خلافة الحكم المستنصر سنة 336هـ. وهو أحد الكتب التي فاخر بها ابن حزم في رسالته في فضل الأندلس قال: "ومنها كتاب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس تأليف أبي مروان بن حيان، نحو عشرة أسفار، من أجلّ ما ألف في هذا المعنى. وهو في الحياة بعد، لم يتجاوز الاكتهال".
ولم يعثر إلى الآن إلا على أربعة أجزاء من مجمل أجزاء "المقتبس" العشرة، وقد نشرت الأجزاء الأربعة، وهي: الجزء الثاني، ويتناول الفترة 232 - 267هـ، والجزء الثالث، ويتناول الفترة 275 - 298هـ، والجزء الخامس، ويتناول الفترة 299 - 330هـ، والجزء السابع، ويتناول الفترة 360 - 364هـ.
وفضلًا عن ذكر أخبار الأندلس، يأتي "المقتبس" -وبدقة- على بعض أخبار إسبانيا المسيحية، مما جعل باحثًا حديثًا يقرر بأن "ابن حيان ينبغي ان يُجعل في طليعة من يرجع إليهم عند الحديث عن تاريخ إسبانيا المسيحية حتى أواخر القرن العاشر الميلادي". ولعل ابن حيان كان يعرف عجمية مستعربي الأندلس، أو أنه استمد أخباره من المستعربين بقرطبة، وكانوا على اتصال بإخوانهم في الدين في شمال إسبانيا.
كتاب المتين:
لابن حيان أيضًا كتاب "المتين"، وفيه تناول بالتفصيل أخبار الفتنة، وقيام ممالك الطوائف في الأندلس من 399هـ إلى 462هـ، وضاع ضمن تراث الأندلس، إلا أن بعض الروايات يصفه بأنه يقع في 60 جزءًا. وكتاب المتين هو كتابُ ابن حيان الأصيل، لم يصلنا الا في مقتطفات ونتفٍ أوردها ابن بسام الشنتريني في كتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، كما احتفظ ببعض فقرات الكتاب المؤرخون الذين أتوا بعد ابن بسام كابن الأبار وابن عذاري وابن الخطيب. وإن الفقرات التاريخية في كتاب ابن بسام الموسوعي، الذي أرخ فيه للأدب الأندلسي في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، مقتبسة في معظمها من كتاب "المتين" لابن حيان. يقول ابن بسام: "واعتمدت المائة الخامسة من الهجرة، فشرحت بعض محنها..، وأحصيت علل استيلاء طوائف الروم على هذا الإقليم الأندلس..، وعولت في معظم ذلك على تاريخ ابن مروان بن حيان ..، فإذا أعوزني كلامه، وعزني سرده ونظامه، عكفت على طللي البائد، وضربت في حديدي البارد". ويقول ابن بسام في موضع آخر من "الذخيرة" إنه يلخص أخبار ملوك الجزيرة الأندلس اعتمادًا على ابن حيان "لأني إذا وجدت من كلامه فصلًا قد أحكمه أو خبرًا قد سرده ونظمه، عولت على ما وصف..؛ إقرارًا بالفرق، واعفاءً لنفسي من معارضة من أحرز بأفقنا في وقته قصـبات السبق".
كتاب أخبار الدولة العامرية:
كذلك خصّ فترة حكم المنصور بن أبي عامر بكتاب "المآثر العامرية" أو " أخبار الدولة العامرية المنسوخة بالفتنة البربرية"، وهو مؤلف ضخم، ضم أخبار الفترة الواقعة بين 336هـ إلى 399هـ، يقص فيه ابن حيان سيرة المنصور، وتفاصيل غزواته الخمسين.
كتاب البطشة الكبرى:
أمّا كتاب "البطشة الكبرى" فيتضمن تفاصيل قيام دولة بني جهور في قرطبة وسقوطها (422هـ - 449هـ)، إضافة إلى تفاصيل غدر المعتمد بن عباد واستيلائه على قرطبة وبطشه بحكامها بني جهور ونفيه لهم، وهم الذين استنجدوا به لإنقاذهم من غزوة المأمون بن ذي النون حاكم طليطلة.
وقد نقل مؤرخو الأندلس الذين جاؤوا من بعد ابن حيان معظم كتب الأخير وضمنوها في ثنايا كتبهم، فحفظوا لنا تراث أحد أهم أعلام الأندلس، ومؤرخها الأول بلا جدال.
ملاحظات على كتابات ابن حيان التاريخية:
هناك عدة ملاحظات حول أعمال ابن حيان التارخية من حيث أنه "أرخ للعدوتين الأندلس والمغرب" تأريخا شاملًا مؤسسًا على الاهتمام بالأخبار بالدرجة الأولى خاصة في كتابه "المقتبس"، ولم يحاول لسبب أو لآخر أن يكتب في تاريخ أي قطر من أقطار العالم والإسلامي، وإنما قَصَرْ نشاطه العلمي على العدوتين -المغرب والأندلس. والملاحظة الأخرى أنه ركّز بصفة خاصة على قُرْطُبَة التي كان يعتد بها أشد الاعتداد، متخذًا من ولاءه لبني أمية منطلقًا أساسيًا في كتاباته ؛ مما أدى ذلك إلى تسفيه خصومهم في الداخل والخارج.
وملاحظة أخرى تم رصدها من خلال العديد من مفرداته وهي تعدد مجالات المعرفة الاجتماعية والثقافية التي طرقها ابن حَيَّان وعكست لنا ألوانًا من الحياة الأندلسية الاجتماعية والثقافية؛ فنراه يرصد العديد من الظواهر الاجتماعية عندما يصور شرائح المجتمع بما فيها من صور الوشاية، والذم، والمكائد، وفساد القضاة، كما عكس الصراع الذي كان يدور بين الفقهاء والخليفة وأوضحت أيضًا مدى اهتمامه بالجانب الاقتصادي من خلال تعدد مفردات مثل" دار السكة" و"دار الضرب" و"خالص الذهب والفضة"، و"قبض الجباية"، و"تدليس العملة" الخ .
وهناك ملاحظة أخرى اتصفت بها بعض كتابات ابن حيان حيث اتصف بشيء لا يحمد عليه، ولا يعد من المميزات الحسنة، بل هو نقطة ضعف في تاريخه، تجعل القارئ لا يطمئن إلى كل ما يرويه أو ما يخبر به. ونعني بذلك الذمّ والطعن والتشنيع على الناس مما ضج منه غير واحد من العلماء والمؤرخين الذين نقلوا عنه واستفادوا منه، فكانوا يستخلصون المعلومات والإفادات التي تهمهم في الموضوع ويعرضون عن لمزاته ونيله من الأعراض والأشخاص الذين يترجم لهم. وابن بشكوال في كتابه "الصلة" أول من يفعل ذلك. ولما ترجم لابن حيان أثنى عليه الثناء الجميل، وأشار إلى ما ينتقد عليه من ذلك في صورة إبراء على عادة العلماء. إذ حكى عن الفقيه الصالح أبي عبد الله بن عون أنه رآه في النوم بعد وفاته، فسأله ما فعل الله به فقال: غفر لي. قال: فقلت له فالتاريخ الذي صنعت ندمت عليه؟ فقال: أما والله لقد ندمت عليه إلا أن الله عز وجل بلطفه عفا عني وغفر لي.
فهذه الحكاية صحّت أم لا، في سياقها الجميل اعتذار لطيف كان هو الإعلان من ابن بشكوال رحمه الله عن عدم موافقته على صنيع ابن حيان في نبش عيوب الناس ولو كانت واقعا ثابتا، فإنه لم يقدح في صدقه، ولكنه استنكر التشهير بعباد الله فيما أمرنا بستره وعدم البحث عنه، ولا سيما مع عدم المقتضي لذكره واستكمال فائدة الخبر بالسكوت عنه، فإنه حينئذ يصبح هِجاء، وهل يكون المؤرخ هَجَّاء.
المرجعية التاريخية لابن حَيَّان:
استند ابن حيان في تاريخه إلى مرجعيات عدة منها: "المشاهدات العيانية" خاصة وأن عصره كان زاخرًا بالأحداث التي تستحق الرصد والتسجيل، واعتمد كذلك على"الروايات الشفوية" التي أخذها عن مقربيه ومكاتبيه، وهم أشخاص توافرت لديهم المعرفة بالحدث والثقة فيما يوردون من أخبار؛ فدوّن الكثير برواية هؤلاء كما استند أيضًا إلى"الوثائق الرسمية"، التي اطلع عليها بحكم نشأته في أسرة مقربة من بلاط الخلافة، أو ًاطْلَعهُ عليها والده حيث كان كاتبًا ووزيرًا مقربًا للعامريين، كما استند إلى آثار من تقدمه من الإخباريين والمؤرخين.
وقام بنقل مؤلفات هي الآن في عداد المفقود من التراث الأندلسي، وكان في المقتبس أكثر اعتماده على الكتب والنقل منها. وكان ابن حَيَّان قد عرف كيف يستفيد من جميع الكتب السابقة ذات القيمة التاريخية؛ ولذا اجتهد في أن يجمع أكبر عدد من المصادر التي تنوعت بتنوع الموضوعات التي عالجها في تاريخه الكبير منذ الفتح الإسلامي للأندلس حتى عصره.
خصائص وأسلوب الكتابة التاريخية عند ابن حَيَّان:
كان أسلوب ابن حيان يمتاز بالسهولة والوضوح والتعبير الدقيق عن الحقائق، وقوة التدليل والتفسير والتعليل، وامتاز بترابط الفكرة، وتخير المفردات والتراكيب العربية السليمة، وتخلص من قيود السجع ومحسنات البديع المتكلفة، وتدلنا كتاباته التاريخية على أدبه الرفيع مع التزام الدقة والأمانة التاريخية.
وبالاطلاع على ما أمكن من هذه المادة، نجد أنه حقا أديب متمكن واسع المعرفة جزل العبارة قوي الأسلوب، بحيث يعد من بلغاء كتاب عصره، إلا أنه سلم من آفة السجع الذي كان قد أصبح حلية الكتاب وعلامة البراعة. وهذه المكانة الأدبية هي التي جعلته متميزا بين المؤرخين بصفاء ديباجته وعلو لغته، لأن طبع الأديب فيه يغلب على طبع المؤرخ، حتى إنه يقع في كلامه بعض الألفاظ الغريبة أحيانا. ومع ذلك فهو في التاريخ نسيج وحده في عصره وبلده، استوعب تواريخ من سبقه لعهد الولاة وخلافة قرطبة إلى حين سقوطها. وسجل ما شهده من أحداث التاريخ الكبرى كأخبار الدولة العامرية، والفتنة البربرية وقيام ملوك الطوائف، وغير ذلك بدقة متناهية واستقصاء كامل، مما جعله المرجع الوحيد في هذه الفترة الخطيرة من تاريخ الأندلس الذي لا غنى عنه لكاتب أو باحث.
كماكان ابن حيان مفسرا للتاريخ، فطن إلى أهمية التفسير والتعليل في مجال كتابة التاريخ؛ وذكر السبب بالحدث قد استمد تفسيراته من الاستقراء الواعي للأحداث حيث قام بتعليل وتفسير العديد من الأحداث، وقد عول في تفسيره على عدة محاور منها: التعويل على العقل والاستقراء الواعي للأحداث، وكذلك على البعد المذهبي، ونراه أيضًا يعول على التفسير الإثني أو العرقي، كما استند في تفسيراته على البعدين الديني والأخلاقي.
اهتمام المستشرقين بكتابات ابن حيان:
نال ابن حَيَّان اهتمامًا كبيرًا من المستشرقين وعلى رأسهم دوزي الذي فطن مبكرًا إلى قيمة ما كتبه ابن حَيَّان، واستعان بمخطوطاته في كتاباته عن تاريخ الأندلس، وقام بإبراز مكانته بين مؤرخي الإسلام، وجاء من بعده المستشرق الإسباني فرانشيسكو كوديرا F.Codrea (ت 1917م) الذي نشر بعض الأبحاث استفاد فيها من المقتبس تحت عنوان "دراسات نقدية حول تاريخ الأندلس".
وهناك أيضًا جهود ملتشور أنطونيا Antonia (ت 1936م)، الذي يرجع إليه الفضل في نشر أول أثر تاريخي لابن حَيَّان، وقام بإعداد رسالته للدكتوراه حول ابن حَيَّان ومؤلفاته التاريخية، ونشر فصولًا حول هذا الموضوع في مجلة "مدينة الله" Ciudad de Dios"، ثم نال درجة الدكتوراه ببحثه هذا في سنة 1933م. وواصل الاهتمام بتاريخ ابن حَيَّان المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال Lévi Provençal (ت 1956م) خليفة دوزي، وتابَع عمله في محاولة كتابة تاريخ شامل للأندلس.
وهناك أيضًا دراسة قيمة نشرها بدرو تشالميتا Pedro Chalmeta بعنوان "الكتابات التاريخية الإسبانية خلال العصور الوسطى: المدونات العربية" نشرها في مجلة  الأندلس" Al-Andalus، وناقش فيها إنتاج اثنين من كبار مؤرخي الأندلس هما: ابن حَيَّان، وابن عذارى المراكشي (ت720هـ/1320م). وبالنسبة لابن حَيَّان ناقش قضية تاريخ تأليف "المقتبس" بصورة تفصيلية. وهناك مقال المستشرقة ماريا خيسوس بيغيرا Viguera، ونشر في مجلة "القنطرة" حول التاريخ الذي كتب فيه ابن حَيَّان"، ومقال آخر لنفس الباحثة بعنوان "ملاحظات حول ابن حَيَّان" ونشرته في مجلة "شؤون عربية" والتي تصدرها جامعة الدول العربية في تونس في طبعتها الإسبانية سنة 1986م.
كما أن هناك دراسة ماريا لويسا آبيلاAvila Maria Lusia بعنوان "تاريخ كتابة المقتبس لابن حَيَّان" La Feche de redaccion del Muqtabis وهو منشور في مجلة "القنطرة" المجلد الخامس.
الدراسات العربية حول كتابات ابن حيان التاريخية:
أن عن الدراسات العربية حول كتابات ابن حيان التاريخية فكان أهمها على الإطلاق، دراسة الأستاذ الدكتور محمود علي مَكي عندما قام بتحقيق كتاب المقتبس - السفر الثاني- سنة 1973م واستعرض فيها قيمة ابن حَيَّان التاريخية ونشأته وشيوخه وأعماله ومنهجه في كتابة التاريخ، ثم تابع الدراسة سنة 2002م عندما قام بنشر السفر الثاني (الشطر الأول المكتشف حديثًا)، وهناك دراسات متخصصة حول ابن حَيَّان تضمنها عدد مجلة المناهل الذي صدر بمناسبة الندوة العلمية التي عقدت بالرباط عام 1981م حول ابن حَيَّان وآثاره التاريخية، وحمل رقم 29، ونعرض باختصار لأهم تلك الأبحاث.
ومنها مقال الدكتور إحسان عباس حول "طريقة ابن حَيَّان في الكتابة التاريخية"، وتعرض فيه لمنهج الكتابة التاريخية عند ابن حَيَّان وتتبع فيه عددًا من النصوص، التي نص ابن حَيَّان في المقتبس على أنه نقلها عن مؤرخين سابقين، مثل ابن الْقُوْطِيَّة، والرَّازي، والزُّبَيْديّ، وابن حَزْم وانتهى من المقابلة بين ما كتبه ابن حَيَّان، وما ورد في أصول هؤلاء المؤرخين إلى نتيجة وهى أن "ابن حَيَّان لم يكن يرى في نفسه محض ناقل عن الآخرين، بل كان له من قدرته على التحليل والأسلوب الجميل، ما يقنعه بأنه لابد من أن يعيد كثيرًا مما كتبه غيره، ليكون التاريخ متناسقًا في مستوياته المختلفة".
ويلي هذا البحث مقال للدكتور مصطفى الشكعة بعنوان "أبو مروان ابن حَيَّان بين الأدب الإبداعي، وأدب كتابة التاريخ"، واستعرض فيه خصائص وأسلوب الكتابة لدى ابن حَيَّان، وأن الكتابة التاريخية لديه قد تحولت إلى أدب متميز. أما دراسة الدكتور محمد مفتاح عن "منهاجية ابن حَيَّان في تأريخ الأدب ونقده" وقام بتوجيه النظر إلى التراجم، التي ساقها ابن حَيَّان في تاريخه للشعراء، والأدباء، التي تبدو فيها خصائص الكتابة التاريخية عند ابن حَيَّان.
وهناك دراسة الدكتورة وداد القاضي واستعرضت فيه مسألة "الفكر السياسي لابن حَيَّان" والمهمات التي يجب على الخليفة أن يضطلع بها من وجهة نظر ابن حَيَّان سواء بالنسبة للجهاد ضد العدو الخارجي، أو موقفه من الفتن الداخلية بمختلف أشكالها السياسية والمذهبية.
وهناك دراسة قيمة عن فكر ابن حَيَّان التاريخي للأستاذ الدكتور محمود إسماعيل في كتاب "الفكر التاريخي في بلاد المغرب والأندلس"، وتضمن دراسة تقويمية لفكر ابن حَيَّان ورؤيته التاريخية وما له وما عليه.
وفاة ابن حيان القرطبي:
عاش المؤرخ ابن حيان عمرا طويلا إذ بلغ أكثر من 90 عامًا، حيث تُوفي في 27 من ربيع الأول سنة 469هـ / 1076م، ودفن يوم الأحد بعد صلاة العصر في مقبرة الربض في جنوب شرقي قرطبة، مثوى عظماء رجال الأندلس.
فرحم الله ابن حيان القرطبي شيخ مؤرخي الأندلس وحامل لواء التاريخ فيه.
المصادر والمراجع:
·       ابن حيان: المقتبس في أخبار الأندلس، من التقديم الذي وضعه للكتاب الدكتور صلاح الدين الهواري، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 2006م.
·       ابن بشكوال: الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، عني بنشره وصححه وراجع أصله: السيد عزت العطار الحسيني، الناشر: مكتبة الخانجي، الطبعة: الثانية، 1374هـ / 1955م.
·       د. أنور زناتي: حامل لواء التاريخ في الأندلس ابن حيان القرطبي، دار زهران للنشر والتوزيع، د.ت.
·       عبد الله كنون: نقطة ضعف في تاريخ ابن حيّان، مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، المغرب.
·       ابن حيان .. مؤرّخ الأندلس الضائع، موقع الجريدة، سبتمبر 2009م.
·       أحمد توفيق الطيبي: الدولة العامرية وزمن الفتنة وممالك الطوائف في الأندلس كما أرخ لها ابن حيان القرطبي، جريدة الحياة، رقم العدد: (13400)، 24/4/1422هـ / 15/7/2001م.

الأحد، 30 أغسطس 2020

عادات وتقاليد المغاربة في الاحتفال بيوم عاشوراء


“الشّعالة”، “زمزم”، “الذيالة” عبارات رمزية ارتبطت بمظاهر تميز إحياء ذكرى عاشوراء في المغرب التي تصادف العاشر من شهر محرم من كل سنة هجرية، فإذا كان يوم عاشوراء في العراق وإيران يوم كآبة وحزن على مقتل سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه، فإنه في المغرب مناسبة للفرح والترفيه والتضامن وسط أجواء روحانية وتقاليد اجتماعية وحركة تجارية غير عادية.
شراء الفاكية: يبدأ الاحتفال بمناسبة عاشوراء في العديد من مناطق المغرب منذ مطلع شهر محرم، حيث تمتلئ الأسواق بالتمور والفواكه الجافة من تين وتمر وجوز ولوز وكاكاو وحمص وحلوى، وهذه الفواكه معروفة عند عامة الناس في المغرب بـ“الفاكية”، ويخلق إقبال الناس على شرائها رواجا كبيرا حيث يعتبر اقتناؤها لدى الأسر المغربية أحد لوازم الاحتفال، ويعد استهلاكها وتفريقها على الأهل والجيران وأطفال الحي مظهرا من مظاهر الاحتفاء بعاشوراء.
ألعاب عاشوراء: يشتري الآباء هدايا لأولادهم، وهذه الهدايا غالبا ما تكون عبارة عن لعب مثل مزامير ومسدسات مائية وأجهزة إلكترونية أو الدمى والبنادر والطعارج وغيرها من اللعب التي يعرضها التجار على غير العادة في الأسواق والشوارع.
الشعالة: تشهد الشوارع والميادين العامة في المدن والأرياف ليلة عاشوراء ظاهرة إشعال النيران التي يطلق عليها “شعالة” أو “تشعالت” بالأمازيغية، وبعد إيقاد النار يبدأ القفز عليها باعتبار أن ذلك يزيل الشر ويبعده، بل إن البعض يشعلون النار في أفنية منازلهم ويأخذون في الدوران حولها وهم يطبلون ويزمرون ويغنون، ويجتهد الفتيان في تأجيج اشتعالها لأطول مدة من الليل، وغالبا ما يستعملون لهذا الغرض عجلات مطاطية بالإضافة إلى أغصان الشجر لتتصاعد الأدخنة في عنان السماء، ويأخذون في القفز فوق اللهيب، في حركات بهلوانية يرافقها القرع على “الطعاريج” بأهازيج شعبية من قبل النساء، مع ما يصاحب ذلك الصخب من إطلاق الأطفال للصواريخ وفرقعتهم للمتفجرات والمفرقعات… لكن طقوس احتفال مغاربة اليوم “فقدت دلالاتها الرمزية وتحولت إلى مجرد لعب ولهو فقط.” وأشار واعراب إلى أن المغاربة القدامى كانوا يبدؤون التحضير لطقوس “الشعالة” منذ الأيام التي تسبق مناسبة عاشوراء، حيث يتم إعداد حطب الموقد وتجميعه في المكان نفسه الذي اعتاد الناس على إضرام النار فيه كل عام. كما يشرعون في اختيار نوعية الحطب. وكانت الأفضلية تمنح لبعض الأشجار التي تعتبر “مباركة”، أي تلك التي تعتقد العامة أن لها “بركة” كشجيرات الدفلى والزعتر والحلفاء وأشجار الزيتون البري (الزبوج) والزيتون المثمر والنخل وغيرها.
طقوس “زمزم”: يستيقظ المغاربة مبكرا في صباح اليوم العاشر من شهر محرم (عاشوراء) اعتقادا منهم أن من ينشط في هذا اليوم سيكون العام عنده كله نشاط وبركة، وفي بعض المناطق تبادر الأمهات بإيقاظ أهاليهن عن طريق نضحهم (رشهم) بالمياه منذ الساعات الأولى من يوم عاشوراء. وبعد الاستيقاظ، يبدأ الصغار في رش بعضهم البعض بالمياه قبل أن ينتقلوا إلى الجيران وبعدهم المارة عبر الدروب والأزقة، لتبدأ بعدها المطاردات في الشوارع بين الذكور والإناث في ظاهرة عجيبة تعرف باسم “زمزم” أو “التزمزيمة”. ورغم أن زمزم هو اسم البئر المبارك في مكة المكرمة، إلا أنه في المغرب يعني اليوم الذي تكون فيه للأطفال حرية كاملة لرش المياه على بعضهم البعض وعلى جيرانهم والمارة في الشارع.
الكسكس باللحم: عشاء ليلة عاشوراء يتكون في الغالب من طعام “الكسكس” الذي يفور على سبعة أنواع من الخضر “سبع خضاري” و“الذيالة”، وهي مؤخرة الخروف وذنبه، ويحتفظ بها من أضحية العيد مملحة لهذا الغرض، وقد يكون معها شيء من “القديد” مع أمعاء الكبش المجففة التي يصنع منها ما يعرف بـ“الكرداس”.


[عن مدونة عالم النساء / نونبر 2014]

السبت، 29 أغسطس 2020

مصادر الحكاية الشعبية في التراث المغربي


نظمت بمقر أكاديمية المملكة المغربية بالرباط ندوة علمية من لدن لجنة التراث بالتعاون مع الجمعية المغربية للتراث اللغوي حول الحكاية الشعبية بالمغرب، وذلك بتاريخ 19-20 شعبان 1426 22-23 شتنبر 2005. وهذه الورقة التي أعدها د. عبد الهادي التازي عضو الأكاديمية حول الموضوع، وحال وجوده في مكة المكرمة عن الحضور...

لم تكن مصادر الحكاية الشعبية في البيوت المغربية فقط من نسيج الخيال العلمي الذي نسمع به اليوم في مسلسلات هاري بوتر Harry Poter، من التي يتهافت على قراءتها الجد والأب والحفيد، ولكنها حكايات تعتمد على مصادر ومراجع تحتاج إلى دراسات ومراجعات واستقصاءات، ولعل مما يجب التذكير به هنا في بداية الحديث تلك المجالس التي اعتاد المغاربة حضورها بكثافة بظاهر أبواب المدن المغربية الكبرى أمثال فاس ومراكش ... مما كان يؤدي دور الثقافة الموازية حسب المصطلح المعاصر ...
كانت هذه المجالس تعقد خارج بعض الأبواب الشهيرة للمدينة: مثلا باب عجيسة بفاس باب الفتوح ... يجلس القوم متناثرين على المرتفعات هناك بين الأضرحة وشهود المقابر ... بعد صلاة العصر... حيث ينتصب من كان يعرف في هذا الوقت با ادريس الفداوي الذي يتتبع الناس حلقات مجلسه بعناية زائدة وكان يختار من صدق التعبير وحسن الأداء ما يزيد في شد الجمهور إليه، وبين فينة وأخرى يستعين بالنقر على دف صغير مربع لينبه الناس إلى فواصل سرده الجذاب ...
ولعل مما يجب التذكير به أيضا في هذا المقام أن نعود إلى مجالس من نوع آخر تعقد داخل بعض المساجد الصغرى التي تنتشر عادة بين الديار والمنازل داخل دروب المدينة ومنعرجاتها مما يتجاوز ثلاثمائة مسجد بالعد والحساب.
هذه المساجد التي تتخذ عادة لصلاة العشاءين يشيد بعضها إلى جانب ضريح من أضرحة فاس من أمثال ضريح سيدي عبد الرحمان المليلي في حومة العدوة، أو بزاوية من الزوايا مثل زاوية الصادقين التي توجد بحي المشاطين ...
هذه المساجد الصغرى كانت ملاذا لصغار التجار والصناع والعملة يقصدونها للتعلم حيث يستمتعون بتقديم ألوان من الثقافة، بأسلوب أقرب إلى الحكاية منه إلى الدرس ... ويعود منها الرجال إلى ديارهم يحكون للسيدات داخل البيت عما سمعوه من الفقيه ابن عبد القادر ابن سودة أو سيدي الحسين العراقي ...
تلك الأنماط من الثقافة الموازية هي التي كانت تغذي ربات البيوت بالعديد من القصص المطرفة التي كانت لها أسانيد ترتكز على أسس تناقلها الناس من أمثال "با ادريس الفداوي" أو أمثال طائفة من الفقهاء والعلماء الذين لا يتطرق الشك إلى ما يروونه من بديع القول ...
أنا من الجيل الذي كان والدي يصحبني معه إلى بعض تلك المجالس سواء منها التي تعقد خارج المدينة أو داخلها ... ومن الجيل الذي كان يسمع والده يردد أخبار تلك المجالس داخل البيت أمام الوالدة والعمة والخالة حيث أستمع مرة أخرى إلى ما تلقاه الوالد من ذي قبل.
ومن غير أن أنسى لا بد أن أتذكر أن عمتي فاطمة كانت – بدورها- تبرع في تبليغ الرسائل إلى من حواليها من السيدات بأسلوب أستطيع القول: إنه كان أسلوبا جذابا ولا يخلو من بهارات كانت تضفي على الموضوع نكهة خاصة ...
عندما كنت أسمع من والدتي قصة عوج بن عناق الذي كان لفرط طوله يأخذ السمك من قعر البحر ويشويه بالشمس ... أقول عندما كنت استمتع بحكايات مثل هذه القصة في البيت لم أكن أعرف أن مصدرها كان هو ابن خلدون ... وما أدراك ما ابن خلدون الذي كان رائج الذكر عند المغاربة داخل بيوتهم ...
عندما كنت أسمع الناس يتحدثون إلينا عن "حمير جدة"، (حمير تصغير حمار، وجدة الموقع الجغرافي المعرف على البحر الأحمر، قرضة مكة المكرمة) ... كانوا يتحدثون عن (حمير جدة) ممثلا في شخص ضئيل الجسم، واسع النشاط، يتحرك بخفة ويقضي من الأغراض ما لا يقضيه الإنسان ذو الحجم الكبير...! كان "حمير جدة" يعني في الأسطورة المغربية المخلوق الصغير الذي يؤدي الكثير في زمن يسير...
كنت أسمع هذا ولكني لم أربط بين كلمة (حمير جدة) وبين ما يحكيه الحجاج عن الحمير الصغيرة التي كانت تنقل الحجاج من جدة إلى مكة في ظرف قصير من الزمن، مقابل تكلفة خفيفة دون ما يتطلبه أصحاب الجمال والنوق ... وأذكر هنا على سبيل التوثيق أن معظم الرحالة المغاربة ممن سجلوا مذكراتهم من أمثال أبي سالم العياشي والشيخ أحمد بناصر وغيرهما أشادوا بحمير جدة!
ولا بد لي، بهذه المناسبة، أن أذكر أن نوادر الحجاج تكون مصدرا خصبا للحكاية الشعبية في التراث المغربي. ولعل من الطريف أن أشير هنا إلى القصة التي رواها الغنامي عن اليهود الذين تسللوا من الشام إلى المدينة المنورة التي دخلوها سرا بقصد حفر نفق يصل حتى الروضة الشريفة، بحثا عن أثر دفين هناك على ما كانوا يزعمون حيث تدخل السلطان قايتباي الأعظم مما يذكرنا اليوم فيما تقوم به إسرائيل وهي تقوم بحفرياتها تحت بيت المقدس أنقده الله من الرجس ...
كنا نسمع من القصص مما الذي يحض على تعلم السباحة ما وقع لأحد الفقهاء الكبار الذين ركبوا متن فلوكة ليقطعوا بحرا ... وقد لذ للشيخ العالم أن يظهر علمه أمام صاحب الفلوكة، فسأله "هل أنه يعرف النحو" فأجابه الرجل: إنه لا يعرف النحو، وهنا كان تعقيب الفقيه على جواب هذا الرجل البسيط: لقد ضاع نصف عمرك!! ولم تلبث الرياح أن هاجت وهاجت معها الأمواج، فتوجه صاحب الفلوكة إلى سيدنا الفقيه يقول له: هل تعرف السباحة؟ فأجابه الفقيه: لا ... فكان تعقيب الفلايكي: لقد ضاع عمرك كله!!!
هذه القصة بما تحمله من معان تظهر بسيطة ولكنها بعيدة المدى هذه القصة بسطها مولانا جلال الدين الرومي في موسوعته العالمية الشهيرة التي تحمل عنوان (مثنوي)، ومثل هذه القصة مما تحكيه العامة نقرأه في مثنوي ابن الرومي الذي كان ابن بطوطة أول رحالة مسلم عرف به عندما زار ضريحه في مدينة قونية.
وكلنا، يحفظ أسطورة ترويها العامة في معرض النصح بعدم الالتفات لتعليقات الناس ومقاومة الحيرة عند اتخاذ المواقف، فهم يحكون لنا قصة الأب الذي ركب حماره تاركا ولده يمشي وراءه، فسمع الناس يقولون: يا له من أب قسي القلب! ركب الحمار وترك طفله يتعب! فنزل الوالد وأركب ولده فسمع الناس يقولون: يا له من ولد عاق ركب الحمار وترك والده يمشي على الأرض! وركب الاثنان معا فاخذ الناس يعلقون على قسوة الرجلين يركبان معا على حيوان أبكم لا يستطيع الشكوى من ثقل الوزن! ونزل الاثنان ليتركا الحمار ماشيا لوحده فأخذ الناس يقولون: يا لهما من بليدين ... تركا المركب الذي خلقه الله راحة للإنسان!! ولم يبق أمام الرجلين إلا أن يحملا الحمار على كتفيهما ويذهبا به إلى السوق ليتخلصا منه!!
هذه القصة بما تدل عليه من تربية عالية أخذها المغاربة من كتاب نفح الطيب للمقري قبل أن يصوغها الشاعر الفرنسي لافونطين في قطعة من شعره على ما معروف ...
وقد كونت (ألف ليلة وليلة) عنصر هاما من عناصر الحكاية الشعبية لدى المغاربة بل إنهم ابتكروا على منوالها قصصا رشيقة بلسانهم الدارج حملت بعض المؤلفين من مغاربة وغيرهم على أن يدونوا تلك الحكايات في كتاباتهم ...
وأذكر أنني كنت من بين هؤلاء الذين عنوا، منذ وقت مبكر، بصياغة الحكايات التي كنت أتلقاها وكنت أجعل لهذه القصص عناوين خاصة، وما أزال أحتفظ بهذه الكراسات وأعتز بها ضمن مكتبتي الخاصة ...
عندي مجموعة مخطوطة تحمل عنوان (تطورات الزمان في حياة الإنسان) كتبت بتاريخ 1/1/1358 = 24 مارس 1936 ولي من العمر خمس عشرة سنة! أهديتها إلى شقيقي الطفل عبد الرفيع الذي كان له من العمر نحو من سنتين.
وهناك مجموعة أخرى مخطوطة أيضا كتبتها بعد الأولى تحمل عنوان (أخلاق الإنجاب في منتخبات الآداب) ضمنتها عددا من الحكايات الشعبية التي كنا نتلقاها ممن حوالينا مما يهدف إلى بناء خلق من الأخلاق أو تربية مثالية من التربيات.
ولا أظن أن أحدا ممن يهتم بالحكاية الشعبية ينسى قصة السيدة الصالحة التي كان زوجها يتحدث عن صرامتها في الحجاب، ويرسم لها صورة كاريكاتورية مضحكة عندما يذكر أنه كان يتوفر على ديك، على نحو ما جرت به العادة بالأمس في معظم البيوت ... وأنه كان يلاحظ أن زوجته عندما كانت تريد أن تقدم للديك حبا أو شرابا كانت تجعل لثاما على وجهها توقيا من نظرات الديك المارقة.!!
وقد تحداه بعض أصدقائه، وأوحى إليه بأن يمتحن زوجته ... هذا الامتحان بدوره كان من الحكايات التي تداولتها البيوت بأشعارها وأوزارها ...
وقد تنوعت الحكايات وتعددت لدرجة أنه خلقت لنا جحا فاس وجحا مراكش حيث أصبحنا نستمع إلى نوادر جحا الفاسي مع زوجته ومحيطه، وجحا المراكشي كذلك مع زوجته وعائلته ...
والمهم في كل هذه المرويات أنها تستمد أصولها مما يلتقطه الناس من رواة الحكاية الذين يتوزعون في الأغلب بين من نسميهم "الحلايقية" نسبة إلى الحلقة، حيث يتميز الحلايقي بأسلوب يعرف به على نحو ما يتميز بلباسه وهيئته وطريقة آدابه وحتى موضوع أحاديثه ...
ومن هنا نرى أن "الفداوية" التي أشرنا إليها كانت تخضع لرقابة المحتسب الذي يكون عليه أن يتتبع ما يذاع بين الناس وما يجري في الساحة ...
وأظنني بحاجة إلى ترديد اسم هنا تحدثت عنه تواريخ مراكش ومذكرات ساحة جامع الفنا. بل وكتبت حوله الأطاريح بلغات أجنبية، ويتعلق الأمر بالحلايقي الشهير تحت اسم "با برغوت" الذي كان يتميز خلقة بأنه قليل الجسم قزم، ويلبس أحسن الثياب من التي يلبسها الكبار جاباضور ومتعلقاته ... يخيطها على مقدار حجمه ... وتغشاه في حلقته كل الطبقات بمن فيهم بعض المتنفدين ...
ونعلم سلفا أن لكل حلايقي فاتحة وخاتمة اعتاد أن يرددها خاصتين به، يبدأ بهما عمله ... وتتميزان بأنهما تخضعان للظروف السياسية التي تعيشها البلاد. 
وقد حدث ذات يوم أن جرت تعيينات وزارية كانت على غير ما يرتضيه بعض المعارضين الذين أوعزوه لبا برغوت أن يقول ما ينبغي أن يقال حول هذه التعيينات، وهكذا يروي الناس أنه اتخذ عند خاتمة حكايته دعاء على عكس ما يختار زملاؤه من "الحلايقية" الآخرين الذين يتوسلون مثلا إلى الله أن يقويهم على الزمان، ويغلبهم على العدوان، وفيهم من يدعو بالأجر والثواب لمن ابتلاه الله من الأخيار بالنساء الأشرار ...
با برغوت اختار أن يكون دعاؤه على الشكل التالي:
يا رب صغر هذا الزمان حتى يصبح با برغوت من كباره!!
ومعنى هذا الدعاء واضح عند رجال الفن والسياسة مما يعرفون أحجام الكبراء والعظماء ورجال الدولة!!
وبلغت أصداء هذا الدعاء إلى من يهمه الأمر فتعرض با برغوت لمحن نعرف عن حجمها وأضرارها ولم يفرج عنه إلا بعد أن قدم التوبة على الحوبة!
قد أخذت على عاتقي أن أبحث كما أشرت في أصول تلك المرددات الشعبية التي وجدت أنها في معظمها، إن لم أقل كلها، ترجع إلى أصول ذات بال بل إن فيها ما هو مستمد من كتب تفسير القرآن أو الحديث الشريف مما يؤكد – كما أشرت منذ البداية، تأثر البيئة المغربية بمحيطها الاجتماعي الذي طبعته المؤثرات الإسلامية.
لقد أولعت بتتبع هذه الحكايات واقتنعت بأنها حكايات لا تمليها الارتجالية والتلقائية ولكنها تعود إلى أصول أصيلة وتهدف إلى تنبيه الغافل وتقويم المعوج وتسلية الحزين والتخفيف عن المظلوم ومساعدة المنكوب وتقوية عزيمة الضعيف ...
ولعل من المهم أن نلتفت إلى ما يجري على ألسنة العوام، من أمثال وتعابير تضرب في جذور الحكمة، وكلها ترجع إلى ما رووه عمن روى ... مما يصل أحيانا إلى مصدر فقهي أو تاريخي أو أدبي، أو حتى تجريبي طبي أو فلكي ...
كثيرا ما نسمع أن أحد المزدحمين على حانوت سفاج مثلا، يرى أن نوبته في الطابور قد هددت ومست، نسمعه يصيح: يا سيدي " قضى للسابق"، وهو بذلك يردد تعبيرا من تعابير الشيخ خليل وهو من أئمة الفقه المالكي مشرقا ومغربا ...
وكثيرا ما نسمع أن أحدهم، وقد شعر بأن زميله يخلف عليه الوعد ولا يعمل على احترام ما قاله: نسمعه يقول: "قولا وفعلا" وهو يشير بذلك إلى ما تحفظه العامة عن الشيخ عبد الواحد ابن عاشر في رجزه (قولا وفعلا هو الإسلام الرفيع) ...
كثيرا من الناس نسمعهم يرددون: "وحذف ما يعلم جائز"، ويرددون (وعفى عما يعسر).
وربما ابتكروا نوازل ليجدوا لها أحكاما فقهية أو حلولا اجتماعية، وكل ذلك مبني على مجرد الحكاية النافذة التي تعتمد على حس فقهي أو شعور وطني ...
لنتصور انشغال الساحة بمن يرث كلبا كأنه يملك ثروة تركها له صاحبه القديم نظرا لمعروف أسداه له ذلك الكلب، ونحن نعلم ما للكلب من مزايا حتى لاستحق أن يؤلف المرزباني كتابا محاسنه (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) ...
وعرض الاستفتاء على رجال الفقه فأفتوا بصرف ذلك المال للشخص الذي تسمح له نفسه أن يعيش تحت كنف أصهاره الذين يتزوج بنتهم!! ... ولا شك أن في هذا معنى عظيما من المعاني الموجهة للشباب حتى يعتمدوا على أنفسهم في العيش الكريم.
لقد كانت حلقات الفداوية ميدانا فسيحا للفتاوي يروج فيها ما لا تؤديه الفتوى الفقهية في داخل دور الفتوى، والمساجد العتيقة.
كان من أجمل ما سمعته من حكايات شريفة ونحن نتناول طعاما عند بعض رجال الفضل البدو ... حكى لنا، لكي يحثنا على صلة الرحم وفضل التزاور، حكى لنا  وكنت أستمع إليه بشوق : إن سيدنا عليا كان يتناول طعاما مع أصحابه، وإذا بهم يسمعون ساعيا يرجو طعاما ... فسلم الإمام علي إلى بعض الحاضرين دراهم طالبا إليه أن يسلمها للساعي ... وقد استغرب الحاضرون أن يفضل الإمام عطاء الدراهم عوض إشراك الساعي في الطعام، فقد سألوه عن السر ... أجاب لو أننا شاركناه الطعام لكان علينا أن نبحث عنه كل سنة، على الأقل، لكي نصل به الرحم، فخير أن يأخذ الدراهم لنبقى جميعا في حل من التزام تفرضه شراكة الطعام.
وسمعت أحدهم وهو يتحدث عن آنية من الماء يشرب منها الكلب، هل يجوز الوضوء ببقية ذلك الماء، قالوا: لا بأس بذلك، في حين قالوا فيه ولكن إذا شرب من تلك الآنية تارك الصلاة، فإن الوضوء بالسؤر الباقي لا يجوز! بمعنى أن الكلاب أفضل من الإنسان في بعض الأحيان...!!
كثيرة هي الحكايات التي تجري على ألسنة العامة مما يعود أصلا إلى حكم فقهي واقع تاريخي ولنضرب مثلا لهذا بالقصة التي أجمعت المصادر على ترديدها عندما أهدى المنصور الذهبي فيلا لأهل فاس فشكروه، في البداية، على ذلك التفضل، لكنهم لم يطيقوا ذرعا بعتو الفيل في مزروعاتهم وأشجارهم، فاتفقوا على قصد السلطان ليزيح عنهم هذا البلاء، لكنهم عندما مثلوا بين يديه دهشوا في مواجهته، فأقدم أحدهم على القول : إن أهل المدينة يجددون الشكر لكم على الفيل وقد لاحظوا أن الفيل في حاجة إلى فيلة، وهم يلتمسون منكم ... التفضل عليهم بما يخفف الغربة عن الفيل !!
وذلك كله كلام له حضوره وله معناه وله شروحه في مظانه ... وأعتقد أن من هذا القبيل ما ترويه بعض التآليف المطبوعة على الحجر من أن مرويات بعض المدن في المغرب، وحكاياتها وتقاليدها وعاداتها كل ذلك يرجع إلى أصول فقهية غير قابلة للنقد والمناقشة ... وهو ما قصدت أن أؤكده اليوم بمناسبة الحديث عن الحكاية الشعبية في التراث المغربي.

[مؤسسة عبد الهادي التازي]