الأربعاء، 9 نوفمبر 2016

السوق الصغير بالعرائش



السوق الصغير أو  سوق الداخل بالعرائش، صدقة جارية من سلطان مجاهد

    محمد عزلي

نبذة تاريخية
السوق الصغير أو السوق الداخل كما كان يعرف سابقا، هو فضاء تاريخي يعد أحد أهم مكونات التراث الثقافي المادي والرمزي لمدينة العرائش نظرا لقيمته التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، يقع داخل أسوار المدينة العتيقة في المجال الممتد بين باب القصبة، باب القبيبات، وباب المدينة أو "باب الخميس".
كان السوق الصغير عبارة عن ربض متاخم للقصبة التي شكلت نواة المدينة خلال العهد المريني، ثم تحول خلال فترة القرن 17م أي زمن الاحتلال الإسباني الأول للمدينة (1610/1689) إلى "ساحة السلاح" أي فضاء لتجمع الفيالق العسكرية المشكلة للحامية الإسبانية بالمدينة حيث أصبح المكان جزءً داخليا في المدينة بعد توسعتها وتشييد الأسوار الدفاعية الجديدة زمن الحاكم سانتيستيبان.
ويرجع الفضل في إنشاء السوق الصغير إلى السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله في القرن 18م، وتحديدا في العام نفسه الذي قهر فيه المغاربة الأبطال أعداءهم الفرنسيين خلال عدوانهم البحري على العرائش يوم 27 يونيو 1765م، حيث نزل السلطان بمدينة العرائش وأقام فيها مدة شهر كامل واضعا اللبنات الأساسية للإصلاحات وبناء والطرق والتحصينات الجديدة التي رغب في إنجازها، كما أمر ببناء العديد من المؤسسات والمرافق المختلفة الوظائف كالمدرسة والأفران والحمامات والفنادق وكذا هذا السوق الداخلي الذي جعله وقفا على المسجد الأعظم (الجامع الكبير) الموجود به أيضا.
وبالنسبة لأروقة السوق فقد بنيت على فترتين:
1- الرواق السفلي الذي يمتد من مدخل باب المدينة وحتى محل مقهى البقالي هو رواق فترة التأسيس أي النصف الثاني من القرن 18 الميلادي.
2- الرواق العلوي وهو الممتد من المقهى المذكورة حتى مدخل درب الرماة وهو الرواق الذي أنشأ في عهد الحماية الإسبانية وبالضبط سنة 1937م كما تشير إلى ذلك النقيشة الرخامية المثبتة عند بداية الرواق.

القيمة التراثية
السوق الصغير عبارة عن ساحة عامة مستطيلة الشكل، مساحتها المبنية 1039 متر مربع ومساحتها الفارغة 2021 متر مربع، أنجزه مهندس فرنسي مجهول، يتشكل من محلات تجارية من طابق وحيد (أرضي) خلف أروقة مسقفة بعقود يفصلها 80 عمودا منفتحا على باحة السوق، فكان أسلوب بنائه المعماري على الطراز الكلاسيكي الحديث "Néoclassique "، والجدير بالذكر أن السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله أمر ببناء السوق الصغير في العرائش بتزامن مع بناء مدينة الصويرة التي شيدت على النمط الأوربي وحصنت تبعا لقواعد المارشال فوبان "vauban"، من قبل المهندس الفرنسي بيير كورنو "Pierre cornut" الذي أصبح وزيرا للسلطان، وهذا ما يفسر التشابه الكبير بين السوق الصغير بالعرائش وسوق الصويرة[7].
إن اكتمال بناء السوق الصغير كان بمثابة جوهرة العقد لأعمال توسعة المدينة، العقد الذي تشكل من معالم أخرى عديدة لازالت شاهدة على تلك الحقبة مثل المسجد الأعظم ومدرسته وفندق زلجو، وحقب زمنية أخرى متقدمة ومتأخرة من قبيل باب وبرج القصبة، باب المدينة، باب القبيبات، الصقالة، وقد كان السوق محاطا بأسوار تم إزالة معظمها قصد بناء المدينة الجديدة من جهة باب الغريسة، ثم جهة باب المدينة في مرحلة عهد الحماية الإسبانية في النصف الأول من القرن العشرين، وهي الفترة نفسها التي عرفت فتح شارع الملك ألفونسو الثالث عشر "المسيرة الخضراء حاليا" كممر رابط بين السوق الصغير وشارع محمد الخامس[8].
تميز الفضاء الفسيح للسوق الصغير منذ إنشائه وعلى مدار قرنين من الزمن بمختلف تجليات التراث الثقافي اللامادي المتمثل في الفنون الشعبية أو تراث "الحلقة"، على شاكلة ساحة جامع الفنا بمراكش، فكان الإبهار يبلغ أوجه عند الأعياد والمواسم، وخاصة في موسم عمارة لالة منانة المصباحية، وسيدي علال بن احمد العسري، بمناسبة الاحتفالات الشعبية والرسمية بعيد المولد النبوي الشريف، هذه الطقوس المهيبة كانت تحظى بمتابعة شعبية كبيرة لما تقدمه من مظاهر احتفالية، ليصبح السوق الصغير مسرحا حيا ومفتوحا للإبداع والفن، للأهازيج و"الحيرة" و"الجدبة"، لاستعراض المهارات وسرد جديد الحكايات، في تنافس محتدم بين صناع الفرجة (عيساوة، اكناوة، حمداشة، جلالة، الرواة..) وغير ذلك من طقوس الطوائف[9].

القيمة التجارية
السوق الصغير أو السوق الداخل هو فضاء ذو وظيفة اقتصادية، بني ليدر مداخيل حبسية قارة لخدمة المسجد الأعظم ومدرسته وتغطية مصاريفهما، يضم اليوم 76 محلاً تجارياً خلف الأروقة المسقفة، تنقسم إلى مشورين متقابلين تتوسطهما باحة مستطيلة وفسيحة لا تخلو بدورها من نشاط تجاري (الأثاث والأدوات والأجهزة والملابس المستعملة)، لعبت هذه المحلات منذ إنشائها إلى الآن دورا اقتصاديا واجتماعيا محوريا في المدينة العتيقة، حيث تفرق دورها بين التجارة بجميع روافدها (المنتجات الغذائية والاستهلاكية، النسيج والملبوسات، الفرش والأثاث، عطار، جزار..). والصناعة (الملابس النسيجية والصوفية، النعال والإكسسوارات الجلدية، الأثاث المنزلية من المعدن والخشب..). ثم الحرف والخدمات (سماط العدول سابقا وهي مكاتب صغيرة خاصة بالموثقين، طراف، دراز، حداد، حلاق، نجار..).
إن تشكيلة محلات الجهة الشمالية - من مدخل درب بن التهامي حتى بداية اسماط العدول - كانت خلال فترة الثلاثينات من القرن الماضي مستغلة من قبل التجار اليهود، وهو الأمر الذي يوضح مدى التعايش العملي بين الديانات الثلاث على أرض العرائش من خلال المعاملات التجارية.
لازال السوق الصغير إلى يومنا هذا يعرف رواجا تجاريا بوصفه القلب النابض والممون الرئيسي لحاجيات المدينة العتيقة، وفي الوقت الذي فرضت فيه ظروف العصر تطوير المنتجات والأنشطة التجارية والخدماتية لتساير متطلبات مُواطن اليوم من قبيل (الهواتف الذكية، الوجبات السريعة، الملابس العصرية، الأجهزة الكهربائية الحديثة ..)، لازالت بعض المحلات محافظة على أصلها وطابعها ومنتوجها التراثي.

القيمة السياحية
إن القيمة السياحية للسوق الصغير تتجلى في كونه النقطة المركزية التي تتفرع عنها جميع المسالك والممرات بالمدينة العتيقة للعرائش، وعندها تنتهي أيضا، كما تتجلى في جمالية الفضاء وطابعه الأنيق والعتيق، فضلا عن احتضانه لمعالم تاريخية بارزة "باب وبرج القصبة، المسجد الأعظم ومدرسته، باب القبيبات، باب المدينة، وفندق زلجو"، وهي معطيات تَعِدُ بنهضة سياحية حقيقية؛ وتتواجد بالسوق الصغير اليوم عدة وحدات فندقية تقليدية على شكل دور ضيافة تراثية النمط، إضافة إلى بعض المقاهي والمطاعم التقليدية الشعبية المتواضعة إجمالاً والتي توفر وجبات من الطبخ المحلي بأسعار تنافسية، كما توجد به أيضا بعض الصناعات والحرف التراثية التقليدية المهددة بالتلاشي والاختفاء.
إن البنية التحتية السياحية والمنتوج التراثي المادي والرمزي للسوق الصغير لا يتناسبان والقيمة (التاريخية/الثقافية/الجمالية) للفضاء، مما يجعلنا نعتقد أن المستقبل التنموي للمدينة العتيقة ككل مرتبط بالاستثمار السياحي وتثمين التراث الثقافي المادي والرمزي، خاصة وأن السوق الصغير اليوم أصبح وجهة معروفة وطنيا ودوليا بفضل التسويق الإعلامي والكم الكبير من الأنشطة والمهرجانات التي تجعل من ساحته مسرحا لفعالياتها.

القيمة الثقافية
تردد اسم السوق الصغير كثيرا في كتب الأدباء والرحالة والمؤرخين المغاربة والأجانب، نذكر في مقدمتهم على سبيل المثال لا الحصر، الأديب المغربي العالمي محمد شكري أحد أشهر نزلاء فندق زلجو المطل على السوق خلال مرحلة دراسته بالعرائش؛ كما وردت إشارات وأخبار عديدة عن هذا الفضاء التاريخي في كتب الرحالة خلال القرن 19 منهم، جوكوبو كرابرج، توماس وسكوف، ألفاريز بيريز، توماس موسكوف، وأبرزهم وأشهرهم في التاريخ المحلي يبقى هو الجاسوس الإسباني دومينغو باديا، صاحب كتاب "رحلة علي باي" الذي حل بالعرائش سنة 1805 متنكرا في شخصية عالم وأمير عباسي مسلم؛ أما الأديب اللبناني أمين الريحاني فقد وصف السوق الصغير في كتابه "المغرب الأقصى" من خلال رحلة 1939 بقوله "إن السوق الكبيرة، بدكاكينها وأروقتها وقناطرها لأوسع ما شاهدت في هذه المنطقة، وهي تنعم في معاملاتها ببركتين: المعهد الديني في أحد طرفيها، والجامع في الطرف الآخَر، وهناك في حر الصيف البركة الكبرى، هناك إلى جانب الجامع مفيأة جميلة، هي كمسرح التمثيل، مقصورة بثلاثة جدران، مجالسها مثل جدرانها وأرضها، مصفحة بالبلاط الزليجي الزاهي الألوان، فمجرد صورتها تنعش الزائرين. وهذه وراءها أسكفة المدينة القديمة والباب المفتوح إلى الجادات والزنقات، ببيوتها التي لا يُرَى منها غير الحائط الواحد والباب فيه. ما أشد فضول الغريب في هذه الزنقات، وهو يحاول التصور لما وراء الأبواب الموصدة من أسرار الحياة، ويقف كاللص عند باب مفتوح على شقه يسترق اللحظ إلى ما وراءه، فلا يرى غير مدخل ضيق ينتهي إلى باب آخَر موصد. هي الحياة المغربية، وقُلِ الشرقية العربية، بحجبها المتنوعة." [10]
إن السوق الصغير أو السوق الداخل جزء أصيل من تراثنا الثقافي المادي والرمزي، إنه كنز حقيقي من كنوز التراث الثقافي الإنساني، يستحق بكل تأكيد العناية والتثمين والاهتمام، كما يستحق بدون أدنى شك تصنيفه تراثا عالميا.

[ص.و] انظر ملحق الصور والوثائق.
[1] أبو القاسم الزياني، "البستان الظريف في دولة أولاد مولاي الشريف"، ق1 (من النشأة إلى نهاية عهد سيدي محمد بن عبد الله)، دراسة وتحقيق ذ.رشيد الزاوية، مركز الدراسات والبحوث العلوية، مطبعة المعارف الجديدة، ط1، 1992، ص:398.
[2] أحمد بن خالد الناصري، "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"، الدولة العلوية، ج8، تحقيق وتعليق ذ.جعفر الناصري، و ذ.محمد الناصري، دار الكتاب الدار البيضاء 1997، ص: 22-23.
[3] إدريس شهبون، "العرائش في تاريخ المغرب قبل عهد الحماية: جوانب من الحياة السياسية والاقتصادية والعمرانية"، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة تاريخ المغرب، ط1، 2014، ص: 290.
[4] د.ادريس شهبون، الحملة الفرنسية على العرائش (27 يوليو 1765)، مجلة المليحة، إصدار لمجموعة البحث حول بلاد الهبط – العرائش، ع1، يوليو 1997، ص: 94-105.
[5][6] المفضل التدلاوي، أضواء على ذاكرة العرائش، ط1، 2001، ص: 42-45.
[7] العرائش في تاريخ المغرب..، مرجع سابق، ص: 292-294.
[8] أضواء على ذاكرة العرائش، مرجع سابق، ص:44.
[9] فضيلة التدلاوي، "العادات والتقاليد القديمة لمدينة العرائش"، مطبوعات جمعية المرأة لإحياء التراث بالعرائش 2004، ص:24.
[10] أمين الريحاني، "المغرب الأقصى"، مؤسسة هنداوي سي آي سي 2018، ص: 262-263.
















 1900


عمارة لالة منانة في العشرينيات

1928
























 1939
























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق