نقيشة رخامية ألمانية لمدينة العرائش تصور واقعة يوم 20 نوفمبر 1610، عندما تولى خوان دي مندوزا وفيلاسكو، ماركيز سان جيرمان احتلال ثغر العرائش باسم ملك إسبانيا فيليبي الثالث الذي سبق و عقد مبايعة موثقة مع السلطان السعدي الشيخ المأمون تنازل فيها الأخير عن العرائش لقاء دعم ملك إسبانيا له ضد أخيه السلطان زيدان، إضافة إلى مقابل مادي قدر ب 200000 دو كادوس.
بقلم : عبد الحميد بريري
كان البعد التنصيري حاضرا بقوة في احتلال إسبانيا للعرائش من 20 نونبر
1610 إلى 1 نونبر 1689، تسعة وسبعون سنة من العمل الجاد و الدؤوب لتنصير معالم
المدينة وفصلها عن ماضيها الإسلامي. ويعلم أغلب المهتمين بالتاريخ المغربي كيف
سقطت المدينة في قبضة الإسبان بخيانة عظمى، والضجة التي أحدثها هذا الصنيع في عموم
الشعب المغربي كادت أن تفتت لحمته. وهدا العمل التنصيري ليس غريبا عن الاحتلال في
الفترة التي حددناها سلفا لأنها تتزامن وحدث طرد المسلمين من الأندلس والهجمة
الشرسة على الثغور المغربية التي كانت وراءها الكنيسة وبمباركة منها. مصير المغرب
كان ينتظره مصير الأندلس لولا لطف الله ولولا الجهاد الذي نادى به العلماء وأطرته
الزوايا. احتلال الشواطئ المغربية كان مقدمة لما بعده، لتحقيق مطالب الرهبان
والقساوسة المسيحيين في نشر دينهم بقوة السلاح في كل تراب المملكة خوفا من فتح
مغربي جديد لشبه الجزيرة الأيبيرية .
كان احتلال العرائش ضمن الحملة هذه، وله هدف خاص للإسبان وبشرعية عقد
مكتوب مع سلطة مغربية لها شرعية الحكم، وسابقة خطيرة هو بيع قطعة من تراب الوطن لاتخاذها
قاعدة حربية في بلاد المغرب. وبالفعل قبل أن تطأه أقدامهم حتى ظهر المخطط. فمن بين
الشروط التي ألزم بها الشيخ المامون لتسلم العرائش هو إخلاؤها من سكانها المسلمين
والتي تعتبر مظهر من مظاهر التنصير و نموذج تطبيقه بالأندلس ليس ببعيد. يتحدث
المؤرخون عن هذه النكبة يوم جاء قائدي المامون إلى العرائش لتنفيذ ما وعد به سيدهم
: القائد محمد الكرني وقائد العرائش منصور بن يحي، يراودان أهلها بالخروج لكن
العرائشيين يرفضون، ثم ينكلان بهم، ويقاتلانهم حتى ” قتل منهم عدة وخرج منها
الباقون تخفق على رؤوسهم ألوية الذل والصغار وهم يبكون “ (1) يحكي الوفراني. و لمزيد
من التدقيق في وصف المأساة، يصف المؤرخ المجهول المشهد بقوله : ” فبادر قواد الشيخ
بخروج النساء والأولاد ورجعوا إلى شيء من المتاع وكانت الناس توادع أولادها و أسلافها
الميتين وتبكي على مقابرها والنصارى يبولون على المقابر والمسلمون والنصارى يعملون
المفرحات …” (2) السيناريو نفسه طبق بالأندلس. هناك طرد جماعي للمسلمين من مدينتهم
وإخراجهم بالقوة من بيوتاتهم، قتل منهم من قاوم وأجبر الأحياء منهم على المغادرة
في صور من الإذلال والمهانة والخزي والعار في مدة لم تتعد 4 أيام. ثم يعودون، بعد
تمكن الإسبان من المدينة وتسليمها لهم، لأخذ حاجياتهم وأمتعتهم وتوديع موتاهم وهم
يبكون فيلقون الإذلال نفسه من طرف النصارى بأبشع صوره ومظاهره و بالاعتداء على
حرمة المسلمين بتدنيس مقابرهم بالتبول فوقها بنوع من الاستهزاء والسخرية والفرحة .
المظهر الثاني تجلى في تغيير أسماء معالم المدينة الإسلامية وسلخها
من هويتها الأصلية منذ اليوم الثاني من احتلالهم لها حيث أصبح حصن النصر يحمل اسم أحد
القديسات المسماة نوسترا سنيورة دي أروبا و الذي صادف يوم تسميته يوم حفل تقديمها
أي يوم الأحد 21 نونبر وسان أنطونيو يحمله حصن الفتح القديس من أوصى باحتلال
المدينة حتى اسمها لم يسلم من هذا التنصير فاستبدل بدوره باسم سان أنطونيو دي
لراشي . كما أن بعض الأماكن كالمنخفضات المحيطة بالمدينة عرفت أسماء نصرانية
كمنخفض سان خوان ومنخفض سان فليبي. وفي تصميم هندسي للمدينة لسنة 1688، يوجد في
كتاب “ العرائش “ لطوماس كارسيا فيغراس وكارلوس رودريكس سان سير، لا يرى في مكان
مسجد القصبة الأنوار حاليا إلا دير يسمى سان فرانسيسكو ومكان المسجد الأعظم حاليا
إلا على منسك نويسترا سنيورا دي لا كبيسة. وما هما إلا المسجدين التي أشارت إليهما
المصادر التاريخية بوجودهما بالعرائش قبل الإحتلال، أحدهما بناه المرينيين في
القرن 13 الميلادي. أما المرسى سميت بسان خيم وحي بالمدينة بدييغو دوفيرا وأسماء
أخرى لأماكن أغلبها أسماء مسيحية لرجال دين . وهذا له أكثر من دلالة على العمل
التنصيري . (3)
خطة طرد المسلمين من المدينة ساعد بشكل كبير على هذا التنصير المحكم
وبسبب ّذلك أيضا في اعتقادي ، لم تصلنا اليوم أسماء معالم أخرى للمدينة وجزء كبير
من تاريخها قبل هذا ، رغم تجدرها في أعماق التاريخ .
المظهر الثالث حضور هذا المعطى أي البعد التنصيري للمدينة في شكل
طقوس واحتفالات وردود فعل وكتابات لها طابع ديني من خلال الكلمات والعبارات
المستعملة في التعبير عن المناسبة . وهذا ما تبين ما إن تحقق الاحتلال وسقطت المدينة،
يعبر كل طرف فيها ما يشعر به. في إسبانيا اقيم احتفال ديني بمناسبة هذا الحدث وطرد
الموريسكيين من الأندلس وإقرانهما ، له أكثر من دلالة دينية ولأنهما يتشابهان في
طريقة تحقيقهما والغرض منهما . وآخر في العرائش اعتبر أول قداس في المدينة ، أقيم
في اليوم الموالي للاحتلال في حصن النصر ، في ابتهاج للنصر الذي تحقق . كما تحركت
أقلام تكتب ما يخالج الصدر من الشعور والإحساس بالفرحة والنصر بتحقيق ما يصبو إليه
العرش والنبلاء ،كالرسالة التي كتبت يوم النزول على أرض العرائش إلى العاهل
الإسباني فليبي الثالث والقصيدة الشعرية المشهورة للشاعر الأسباني كونكورا تحت
عنوان “العرائش ذلك الحصن الأفريقي ” . وقصائد أخرى لا سبيل إلى ذكرها لا تخلو
كذلك من عبارات وألفاظ لها مقاصد وأهداف دينية (4)
أما في الطرف المغربي ، فيحس المغاربة بالأسى والحزن والغضب على ضياع
جزء من أرض الإسلام وطرد المسلمين منها ، فالأمر بهذا وصل إلى رحاب القرويين فور
وصول الخبر وقد اخذ بعدا دينيا حيث اهتز الجامع لهول الحدث “…وقام الشريف أحمد بن
ادريس الحسني ودار على مجالس العلم و نادى بالجهاد والخروج لإغاثة المسلمين
بالعرائش…” ووصول القضية إلى القرويين يعني أهميتها وخطورتها على البلاد والعباد ،
وأن المغرب حان دوره والإسلام قد بدأ عده العكسي كما انتهى بالأندلس (5) .
ولنأخذ مقطع من رسالة محمد بن احمد المكلاتي التي يمدح فيها
المجاهد العياشي حين سحقت مقاومته إسبان العرائش الذين خرجوا في كمين نصب لهم خلال
غزوة العرائش الثانية لنستشهد بما كان عليه المغاربة من التخوفات والتوجسات التي
بدأت تظهر عن طرد المسلمين من الأندلس واحتلال العرائش والمعمورة”… واذكروا وذكروا
المسلمين كيف كان استيلاؤهم على الجزيرة (أيبيريا) واستيصالهم إياها ـأعادها الله
دار إسلام ـ لهذا العهد وكانت أضخم ملكا من هذه العدوة وأكثر عددا وعدة …فلم يزل
العدو ينازلها من أطرافها ، ويطاولها من جهاتها … حتى انتظمت في سلكه . فباع رعاعهم
الملوك ، وطافوا بهم في قطار الزيادة كما يطاف بالمملوك ، بذلة وامتهان وقهر
وافتتان … فكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه ، وكم شيخ خضبوا شيبه بدمائه . وهاهو قد
عبر البحر إلينا ، ومد الصليب بهذه السواحل ذراعيه علينا …الله الله في الإسلام ،
أدركوه قبل أن يموت ، وخلصوه قبل أن يفوت…” (6)
كما ينتقد محمد ازيات الوضع المغربي ويهجو صاحب الفعل الشيخ المامون
في قصيدة شعرية طويلة يرثي فيها العرائش ننقل منها بيتين :
لقد غيرت أيام زهو و سلوة وأصت لنا بكل شجو
ونكبة
عن الغرب لا تسأل وسل عن حديثه حديث شنيع قد خفاه
يجمله (7)
وينفجر غضبا ابو محلي في أقصى الجنوب المغربي على ما آلت إليه الأمور
إذ يقول :
لئن صح ما قد قيل ما عيش عائش إذ أخذ الكفار ثغر العرائش
(8)
أما إذا انتقلنا للأجواء الاحتفالية بنصر تحرير العرائش ، تؤكد هدا
المنحى التنصيري وتجعل هزيمة الأسبان نهاية لما كانت عليه المدينة من تنصير و أسبنة
لمعالمها ، حتى أن ذلك الواقع أصبح له تأثير على مغاربة هذا الجيل فلا يذكرونها
إلا بعبارة مقرونة بعبارات لها مدلولات نصرانية من قبيل “نصارى العرائش ” و”قصر
العرائش” . فنظمت في شأنها قصائد بهذه المناسبة التي لم يسبق لمناسبة مثلها ان
حظيت بهذا الحجم من القصائد الاحتفالية مدحا لصاحبها السلطان المولى اسماعيل ،
ووصفا للمعركة التي تم بها التحرير ، تتضمن ذلك البعد الديني عند المغاربة في
تحرير المدينة ، ووصفه بالفتح له ما يبرره من الناحية الشرعية في مقابل ما تعرضت
له
يقول الشعراء المحتفين فيما يتعلق بالموضوع
يقول الشعراء المحتفين فيما يتعلق بالموضوع
حميتم بيضة الإسلام لما بثغر الحق قد حرس الثغور(9)
عبد الواحد البوعناني
يا ربنا افتح علينا فتحا تجعله على الدوام وفوزا
بالهدى العمم
يا ربنا امنح لنا فتح العرائش يا رب العباد و مسدى
الخير والنعم
وافتح بلادا غدت بالشرك جاحدة لديننا وغدا التوحيد
في انخرم
أمست من الذكر والقرآن خالية أما النواقيس
والصلبان لا ترم
***
وأمسى الغزاة ببلدتهم فنعم العرائش للمؤمنين
أفال به الشرك و اندرست كنائس كانت إلى المشركين
فنحمد ربي ونشكره فدين الإله علا كل دين(10)
محمد الرافعي الأندلسي التطواني
علا عرش دين الله كل العرائش وهد بنصر الله حصن
العرائش
***
وأسلم للإسلام من بعد كفره لوقع سيوف لا
برشوة رائش
عبد السلام القادري الحسني(11)
ونختم هذه النصوص التاريخية المعاصرة للحدث التي تعكس قيمته الدينية بمقدار ما تعرضت له العرائش من طمس هويتها الإسلامية واقتلاعها من جذورها الوطنية بمقطع من رسالة المولى إسماعيل إلى أهل تومبكتو الذين كانوا قد بايعوه عليهم ، يبشرهم بفتح العرائش وجعل الواقعة من انشغالات الأمة الإستراتيجية وجب الإخبار بها، وإبراز مدى أهمية الثغور الإسلامية في بقاء الدين ومعتنقيه ، موضحا لهم ما كانت عليه من تنصير وما أصبحت عليه اليوم من واقع إسلامي جديد يبتهج به كل مسلم حيث يقول:”… تعين علينا أن نبشركم بما من الله به على المسلمين من فتح مدينة العرائش وها هي اليوم من جملة مدن الإسلام يتلى فيها كلام الله وتقام بها حدود الله ومكن الله عباده المسلمين من جميع ما حتوت عليه … وكان فتحا على المسلمين مبينا… فإن هذا الفتح فرح به كل موحد وحزن له كل جاحد”(12)
من خلال هذا السرد لهذه المواد التاريخية التي تتناسب وبحثنا نستشف
كيف أضفى المغاربة الطابع الديني على مرحلتي الحدث لما لامسوه من قصد مبيت
وواقع تنصيري عاشته المدينة إبان الاحتلال .
البعد التنصيري للمدينة إذن كان حاضرا ضمن باقي الأبعاد الأخرى
ولم يغب عن المحتلين الإسبان في هذا القرن الذي تميز بالتعصب الديني المسيحي
ومأساة الأندلس والأندلسيين تبقى شاهدة على ما نقول ـ والله ولي التوفيق ـ
1)
نزهة الحادي بأخبار ملوك الحادي محمد الصغير الوفراني وصحح عبارته
هوداس الطبعة 2 مكتبة الطالب الرباط ص:198
2)
تاريخ الدولة السعدية التكمدارية المؤرخ المجهول تقديم وتحقيق
عبدالرحيم بنحادة طبعة 1994النسخة المعتمدة مخطوط باريس ص: 85
3)
larache – datos para su historia en siglo 17 tomas garcia figueras
y carlos rodrigues joulia saint_cyr p:87 – 88
4)
larache – datos para su historia en siglo 17 tomas garcia figueras
y carlos rodrigues joulia saint_cyr p:87 – 88
5)
نزهة الحادي مرجع سابق ص : 198
6)
المجاهد السلاوي محمد بن أحمد العياشي من تاريخ المغرب في القرن17
تأليف عبداللطيف الشادلي الطبعة الثانية الناشر كلية الاداب والعلوم الانسانية
الرباط مطبعة الامنية ص: 261 و 262
7)
نشر المثاني محمد بن الطيب القادري ج : 1 مطبوعات دار المغرب للتأليف
والترجمة ص : 218
8)
بيت من قصيدة شعرية من 50 بيت في رثاء العرائش سلسبيل الحقيقة
والحق في سبيل الشريعة للخلق أحمد بن ابي محلي مخطوطتان في المكتبة الملكية
بالرباط الاولى 4733 والثانية 5916
9)
الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية محمد بن محمد المشرفي دراسة
وتحقيق ادريس بوهليلة منشورات وزارة الاوقاف ص : 307
10)
تاريخ الضعيف تحقيق وتعليق وتقديم الاستاذ احمد العماري الطبعة
الاولى 1406 / 1986 ص: 71-72-73
11)
تاريخ تطوان لمحمد داود م 1 مطبوعات معهد مولاي الحسن 1959 مطبعة
ومكتبة كريماديس تطوان ص : 398 – 399
12)
التاريخ الدبلوماسي للمغرب منذ أقدم العصور إلى اليوم عبد
الهادي التازي ج : 9 مطابع فضالة المحمدية 1408/ 1988
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق