الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

أفول التألق التجاري لمرسى العرائش


بقلم : عبد الحميد بريري

عرفت منطقة مصب نهر اللوكوس تألقا اقتصاديا دوليا منذ أن أسس الفينيقيون مركز ليكسوس للتجارة مع السكان الأصليين. كانت المنطقة تنتج العنب والقمح و توجد بها صناعة الكروم (صناعة تعتمد على  الأسماك المصطادة بعد تمليحها واستخراج منها نوع من المرق يسمى الكروم )، وتشهد على ذلك المسكوكات النقدية التي عثر عليها  وأحواض تمليح السمك التي لا زالت آثارها ماثلة أمام أعيننا، وتصديرها إلى الخارج. إلا أن عدم الاستقرار الذي خيم على المنطقة جراء الهجمات الاستعمارية من حين لآخر ساهم بشكل كبير في التدهور الاقتصادي للمنطقة وبالتالي أفول التألق التجاري لأقدم بوابة بحرية مغربية في اتجاه أوربا وباقي العالم.
امتد الإشعاع الاقتصادي لمرسى العرائش إلى جهة فاس ومكناس إلى وزان وإلى حدود أصيلا نظرا لقربها من أوربا التي عرفت إقلاعا اقتصاديا ونهما لمواد أولية خاصة في القرن 19، وارتباط العرائش بهذه الجهة عبر طريق سهلية شكل فيها سكان الغرب واسطة ببهائمهم، لنقل الواردات التي تنزل بالمرسى إلى الحاضرتين الكبيرتين (فاس ومكناس) و منتوجات سهل الغرب إلى المرسى ومنها إلى أوربا، كما أن جل التجا، والذين لهم علاقات تجارية بأوربا، من فاس ومكناس وكذلك وكلاء الشركات التجارية من بلجيكا و هولندا والدول الإسكندنافية لهم مقرات بها.  وقد أورد صاحب كتاب القنيطرة ميلاد المدينة والحركة الوطنية مجموعة من أسماء هؤلاء وسماهم المعشرين الرئيسيين بجنسياتهم أو حمايتهم أو انتماءهم لجهات المغرب وهم :
1 – عمران امسلم سمسار فرنسي  2 – محمد بوصفيحة مغربي من فاس  3 – يهودة كسطييل حماية هولندية  4 – سالمون مور يوسف مواطن إسباني  5 – محمد بلغيثي مغربي من فاس  6 – ادريس بلمين مغربي من فاس 7 -  حايم ربي من طنجة  8 – سيمون بن إلوس حماية ألمانية  9 – بنكيران مغربي متجنس إسباني  10 – صامويل سرفاتي مواطن إسباني  11 – بنموسى مغربي حماية ألمانية . (1)
وهذا يدل على أن مرسى العرائش شهدت نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 رواجا اقتصاديا قل نظيره حيث يحكي ألماني  عاش في المغرب عن هذا الرواج التجاري والحركة التجارية التي تعرفها مذكرا أن اغلب الواردات عليها تذهب إلى فاس ومشيرا إلى وجود عدة بيوتات للتجارة  للأجانب وكان هؤلاء  يشكلون نسبة مهما من سكان المدينة . (2)
الظاهرة الاستعمارية التي عرفتها العرائش ومنطقتها منذ القديم، كانت بالخصوص نتيجة هذه الشهرة الاقتصادية نتيجة  توفرها على خيرات متنوعة وذات جودة عالية  وقد شهد سترابون بذلك وقتها، بالإضافة إلى موقعها الإستراتيجي، ( الاحتلال الروماني، الحروب بين العبيديين والأمويين، الاعتداء المسيحي سنة 668 هجرية، الاعتداءات البرتغالية المتكررة :  1418 – 1471 هروب سكان العرائش منها خوفا من نفس مصير سكان  أصيلا التي تعرضت لإبادة جماعية  – 1489   – 1504 .... ، الاحتلال الإسباني سنة 1610 وطرد سكانها  ، الاعتداء الفرنسي 1765 ،  الاعتداء النمساوي 1828 ، القصف الإسباني سنة 1859 ) .
هذه الظاهرة ستؤثر بشكل جلي على تطور مدينة العرائش واحتلالها مكانة مرموقة بين المدن الاقتصادية العالمية حيث كانت حائلا أمام تشكيل نسيج اقتصادي و نشوء رأسمال مغربي و عرائشي خاصة بها ، قادرا على المنافسة التجارية بسبب عدم الاستقرار والأمن .
وهي الحالة التي لم تعشها مدينة العرائش والمنطقة التي تنتمي إليها.
ويعتبر نظام الحماية الذي فرض على المغرب وتقسيمه بين دولتين : فرنسا في الوسط وإسبانيا في الشمال والصحراء الضربة القاضية لنشاط أقدم مرسى مغربية في المحيط الأطلسي . كيف ذلك ؟
تقسيم المغرب بين اسبانيا وفرنسا كانت له انعكاسات سلبية  على المغرب برمته ولا زالت تداعياته   تظهر في  مختلف الميادين الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية ... إلى يومنا هذا ( قضية الصحراء المغربية )، بأن ضربت الوحدة الوطنية التاريخية في عمقها وحاولت زعزعة الدولة المغربية في استقرارها وأمنها التي اكتسبته منذ قرون خلت . وكان ركود  مرسى العرائش من جملة هذه الانعكاسات إذ أصبحت عاجزة عن مسايرة الوضع الاقتصادي المعاصر للمغرب وفتحه لمراسيه أمام اقتصاديات الدول الغربية المتعطشة للسوق المغربية. وهي التي كان الأجانب يطلقون عليها مرسى فاس أي المنفذ البحري لفاس على التجارة الخارجية. رغم أنها  لقيت (مرسى العرائش)  في الفترة التي سبقت الحماية عناية خاصة من طرف المولى الحسن الأول والمولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ  ليلعب أدوارا طلائعية  في الاقتصاد الوطني والدولي فتم هيكلة مرافق المرسى بشكل حديث  وتجديد العناصر البشرية التي تعمل بها، والأهم من هذا كله هو إنشاء الرصيف الأول وحاجز كسر الأمواج (مون فارونة) جهة رأس الرمل من طرف شركة ألمانية سنة 1911 ليصبح الدخول إلى المرسى ميسر و الرسو آمن بعدما كان يتعذر في فصل الشتاء
بدأت الحرب العالمية الأولى وتداعياتها الاقتصادية و الاجتماعية و التجارية  سنة 1914 تلقي بظلالها على السلطات الاستعمارية، وخوفا من نفاذ المواد الاستهلاكية الغذائية الخاصة بالإنسان والحيوان التي تنتجها منطقة النفوذ الفرنسي قرر ليوطي، المقيم العام الفرنسي بالمغرب، عدم تصدير أي منها للخارج بما فيها منطقة الحماية الإسبانية التي كانت تعتمد بالأساس على منطقة الغرب في ذلك استهلاكا ورواجا اقتصاديا لمرسى العرائش المنفذ الأساس لهم في منطقة نفوذهم (3). احتجت اسبانيا على هذا الأمر لكن ذلك لم يغير من الواقع، الشيء الذي جعل معه اسبانيا إلى اتخاذ موقف بوضع مشاكل للواردات الممثلة في الشمع والصابون والقماش و القهوة والسكر والشاي الذاهبة إلى مكناس وفاس اللتان تنتميان إلى منطقة النفوذ الفرنسي وبذلك تضرر تجارة المدينتين اللتان كان لتجارهما ارتباط وثيق بميناء العرائش(4). المقيم العام الفرنسي لم يبق مكتوف الأيدي، بعدما قرر إنشاء ميناء سمي باسمه بور ليوطي حيث توجد قصبة القنيطرة على نهر سبو سنة 1913 لجعله مركز لإمداد البعثات الفرنسية المقيمة في مكناس وفاس، نتيجة عجز ميناء المهدية القيام بهذا الدور لصعوبة الرسو به، عزم على جعل ميناء القنيطرة منافس لميناء العرائش ومحطة أساسية للواردات القادمة من أوربا لحساب تجارة فاس ومكناس، وهو موقع استراتيجي يوجد في طريق الرباط سلا إلى مكناس فاس وتعتبر نقطة بحرية شمالية لمنطقة الحماية الفرنسية أقرب من مرسى العرائش إلى فاس ومكناس التي تعتبران المستهلكان الأساسيان لواردات العرائش التي يشكل بها تجار مدينة فاس الفئة الأكثر ارتيادا لمرساها ولهم روابط تجارية  مع دول عديدة في أروبا (5)، حيث لعب قنصل فرنسا بالعرائش في هذا التحول دورا هاما في إقناع أكبر التجار والمعشرين بالعرائش هو عمران أمسلم الفرنسي بالذهاب لميناء القنيطرة الذي كانت نصف الواردات تأتي لصالحه، ثم لحقه المغربي محمد بوصفيحة  ومن بعده يهودة كسطييل. كما اقتنع تجار فاس ومكناس  بنقل وكالتهم وعملياتهم إلى الميناء الجديد مقابل تحفيزات وامتيازات وفرتها لهم سلطات الحماية الفرنسية،  لتتبعهم الوكالات التجارية الأجنبية الموجودة بالعرائش. ونفس التشجيعات التي لقيها الكبار استفاد منها ناقلي البضائع من وإلى العرائش الذين ينتمون إلى الغرب وبني حسن و الشراردة إذ أعفوا من ضريبة الحافر، كلما أنزلوا السلع المجلوبة من فاس ومكناس يسلم لهم شهادة من طرف السلطات البلدية  للقنيطرة ليعفوا أيضا من نفس الضريبة حين الوصول إلى المدينتين لإنزال الواردات . فضلا عن استفادتهم من قصر المسافة التي تربط فاس بالقنيطرة مقارنة بالعرائش .
أصبح بعد هذا ميناء العرائش، يعرف تراجعا في نشاطه وقد سجل هذا من خلال بعض الوثائق ما بعد سنة  1914، رغم الإصلاح الذي عرفته بنيته التحتية الذي قامت به الدولة المغربية  ما بين 1911 و 1913 (6)، بسبب السياسات الاستعمارية الفرنسية والإسبانية التي تنهجها خدمة لمصالحها التي جاءت من أجلها. كما حاولت السلطات الإسبانية إرجاع الرواج لهذا المرسى، خاصة بعد الأزمة العالمية لسنة 1929، باستجلاب رؤوس الأموال الإسبانية واليهودية، لكن ذلك بجعل المرسى خادمة للمصالح الاستعمارية ليصبح البوابة البحرية الرئيسية لمنطقة الحماية الإسبانية للتزود بالحاجيات التي توفر الظروف الملائمة لعيش البعثة العسكرية والمعمرين. كما حاول المستعمر الإسباني إبعاد المغاربة عن ممارسة أي نشاط تجاري بها خوفا من نشوء رأسمال مغربي يساهم في بعث أية حركة وطنية مناهضة لهم ولوجودهم بالعرائش والمنطقة (7)، وهو الذي جاء إليها قبل عقد الحماية ب " روابط تاريخية  " من خلال احتلاله لها خلال القرن ال17 فأراد بذلك ربط ماضيه الاستعماري بها. وبالفعل وصلت العرائش ازدهارا اقتصاديا بسبب نشاط المرسى التجاري وبوجود رأسمال إسباني كبير يحتكر الفلاحة والصيد البحري والصناعة المرتبطة بهما واكبه نموا في الميدان الاجتماعي بتوفير عدد من مناصب الشغل، و نهضة ثقافية بوجود مسارح ودور السينما وجمعيات ومطابع عصرية ورياضية وغيرها من أمور أثبتت أن هناك إقلاعا اقتصاديا في المدينة. لكن ذلك لم يلبث أن زال فور انتهاء الاحتلال وعودة تلك الأموال إلى حيث أتت، وبالتالي ركود حاد وملموس جر على المدينة البطالة والتهميش والفقر ولا زالت تداعياته تشاهد اليوم. قد نتساءل عن السبب. السبب هو المضايقات التي كان يعرفها المغاربة كما قلنا لعدم قيامهم بأي نشاط اقتصادي بالمدينة واحتكار الأجانب لكل ما يدر الأموال والأرباح حيث جل العمليات التجارية في المرسى والوحدات الصناعية ليست في يد المغاربة وإنما بيد الإسبان واليهود، أما المغاربة وهم يشكلون  شبه أقلية  جلهم مهمشين لا دور لهم إلا استعمال جهدهم وطاقتهم لكسب قوتهم اليومي.
إن اجتثات العرائش من مغربيتها ومن امتدادها الطبيعي والإثني وتفريغها من كل ما هو مغربي للعب أدوار في تحريك عجلة الإقتصاد، وبفعل اللااستقرار التي عاشته جراء الأطماع الإستعمارية، هما السببان الرئيسيان وراء هذا الركود الاقتصادي التي تعيشه العرائش اليوم رغم عراقتها الاقتصادية والتجارية  فضلا عن أسباب ثانوية  أخرى كغياب الحس الإنمائي لها، لدى اغلب ساكنتها ومسؤولييها المحليين والتهميش الذي تتعرض له من طرف الدولة بعد الاستقلال.

(1) -  القنيطرة ميلاد المدينة  والحركة الوطنية 1913/ 1937 ص 34  منشورات سيدي العلمي سنة 1998
(2) ضابط الماني : تسع سنوات في خدمة المغرب تاليف ليوناردو كارو ترجمة عبد الكريم حزل جريدة العلم عدد 18103 و 18111
(3) "مذكرات حول موانئ الشواطئ الأطلسية للمغرب" تقرير أعده القبطان الفرنسي شلومبرك رئيس مخابرات المشاة ضمن البعثة العسكرية الملحقة بالرباط في ماي 1893 وزارة البحرية ادرجها د/ مصطفى مشيش العلمي في كتابه القنيطرة ... ض 11 , وتقرير 25 يناير 1915 من الملازم ميليير للإستخبارات بفاس المدينة حول " انشاء مركز للأهالي " بالقنيطرة ، الأرشيف الديمبلوماسي ، نانط فرنسا ادرجت في نفس الكتاب القنيطرة ميلاد مدينة ... ص 34
(4) برقية 19 يناير 1915 من المقيم العام إلى الدبلوماسية من خلال كتاب القنيطرة ميلاد المدينةوالحركة ... مرجع أعلاه ص 33 ورسالة مؤرخة في 23 دجنبر 1914 من نائب قنصل فرنسا بالعرائش والقصر الكبير إلى المقيم العام المفوض لفرنسا بالمغرب ، كتاب القنيطرة ... مرجع أعلاه ص 33
(5) مذكرات الماريشال ليوطي عن المغرب 1912 الى 1926 نشرها لحسن العسبي في الإتحاد الإشتراكي عدد يوم  14/8/2012
(6)  مجلة المليحة العدد الأول سنة 1997  ص : 108 مقال بعنوان " وثائق جديدة حول الرواج التجاري بميناء العرائش خلال فترة الحماية : دراسة وتقديم  ذ / عبد اللطيف القرشي
(7) مجلة المليحة مرجع سابق  ونفس المقال السابق فيها  ص : 111 و112




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق