الاثنين، 31 ديسمبر 2018

تاريخنا القديم : المملكة المورية. ج4. الدبلوماسية المورية، إشكالية السياسة الخارجية

المملكة المورية وسياستها الخارجية خلال القرن الثاني قبل الميلاد

صورة تمثيلية لمجلس الشيوخ الروماني

     بقلم : محمد شكيب الفليلاح الأنجري

إن الأخبار التي وصلتنا عن الملك بوخوس الأول ومملكته بالدرجة الأولى تسجل موقف هؤلاء مما كان يدور في الساحة الإفريقية من صراعات حول العرش في المملكة النوميدية المجاورة، وصراعات اتخذت طابع المقاومة ضد التواجد الروماني سواء في شكله السياسي – العسكري أو الحضاري – الثقافي. ولم تستطع المملكة المورية المحافظة، أمام هذه الأحداث، على سياستها الموروثة القائمة على اتخاذ موقف حيادي من أي صراع يدور في المنطقة يكون الهدف من ورائه نصرة قوة أجنبية على أخرى محلية، بل نجدها تشارك وعلى غير عادتها في الصراع بين ابني مسيبسا و يوغرطة، وبين هذا الأخير وروما. ولولا ذلك لما وصلتنا أخبار عن هذه المملكة خلال نهاية القرن الثاني قبل الميلاد، ولما اهتم سالوست في كتابه "حرب يوغرطة بذكر الملك بوخوس الأول ومملكته. فالاحتكاك بالقوة الرومانية جعل للمملكة المورية مجالا في الأدبيات الأثينية. فما هو إذن، موقف المملكة المورية من تلك الصراعات التي كانت تدور بمحاذاة حدودها؟ وكيف ساهمت هذه الاضطرابات التي عرفها المسرح الإفريقي في حياد الإدارة المورية عن سياستها المعهودة تجاه الأخر الأجنبي؟ وإلى أي حد تمكنت الجمهورية الرومانية من ترويض الملك بوخوس الأول وتمهيد مملكته للاحتلال المباشر مستقبلا؟
فخلال هذه الفترة، تميزت الساحة السياسية في شمال إفريقيا بظهور صراع قوي ذو طابع سياسي بالدرجة الأولى كان الفاعل الأول فيه هو الأمير النوميدي يوغرطة، الذي سعى إلى إعادة المملكة النوميدية إلى سابق عهدها أيام جده مسينسا بعدما أصابها من تفسخ جراء التدخل الروماني في تحديد طبيعة الحكم والممارسات السياسية في البلاد؛ وذلك لتمهيد هذه الأخيرة للاحتلال وهو ما لم يكن يرضاه النوميديون. فقاوموا ذلك بشراسة افتقدت لعنصر التنظيم والوحدة بين كافة بربر شمال إفريقيا، هذت الافتقار كان من ورائه طبيعة السياسة التي نهجتها المملكة المورية، والتي كانت القوة الثانية بعد نوميديا في شمال إفريقيا، القائمة – كما أسلفنا ذكره – على الحياد الانكماش على الذات. إلا أننا سوف نلاحظ أن هذه السياسة لن تعمر طويلا في ظل ملك متطلع إلى الانفتاح على الآخر الخارجي وقوة عظمى متربصة بالجنس البربري، راغبة في تكريس ما عرف مستقبلا ببحرنا. ومن تم كان على روما أن تجد للمملكة المورية سبيلا كي تخرجها من عزلتها. كما أن المملكة لم تبقى طويلا في معزل ما يدور في الساحة الإفريقية بل نجدها تشارك مشاركة فعالة وتتخذ مما يدور حولها من صراعات سياسية وعسكرية موقفا مغايرا لما اتخذته قبل سنة 118 ق.م.
إن الحديث عن موقف المملكة المورية من الصراعات التي كانت تدور بمحاذاة حدودها هو حديث في حد ذاته عن طبيعة السياسة التي نهجها الملك الموري بوخوس الأول تجاه العالم الخارجي رغبة منه في تكسير ذلك الروتين الذي طبع السياسة الخارجية المورية. فالمتتبع للموقف الموري سواء من الصراع بين يوغرطة وأذربعل، أو بين الأول وروما سوف لن يقف على موقف واحد، بل سيجد تعددا في المواقف اقتضته الطبيعة المتداخلة لما كان يجري خارج الحدود المورية. كما أن الأحداث الداخلية كان لها دور فعال في ذلك بما عرفته من انقسام في الرأي بين معارضين لسياسة الانفتاح على روما، مساندين لهذه الأخيرة.
لقد خاض، كما سبقت الإشارة إليه، الأمير النوميدي يوغرطة صراعا مريرا ميز التاريخ القديم لشمال إفريقيا، وذلك في شقيه، الأول ضد أذربعل حول مسألة تولي العرش النوميدي، والثاني ضد روما الذي اتخذ طابع المقاومة ضد الرومنة.زكما هو معلوم، لدينا معلومات صريحة وصلتنا عن المؤرخ سالوست حول موقف المملكة المورية من الصراع الذي خاضه يوغرطة قي شقه الثاني ضد روما، إلا أننا لا نتوفر إلا على إشارات تكاد تكون غامضة حول موقف هذه المملكة من الصراع السالف في شقه الأول حول العرش النوميدي. ويبدو أن يوغرطة كان يخطط، قبل دخوله الحرب ضد أذربعل،لجعل الملك الموري بوخوس الأول يقف في صفه، وهو ما يمكن ان يفسر البعد السياسي لتلك المصاهرة التي تمت بينه وبين الملك الموري في وقت كانت فيه العلاقات بين يوغرطة وروما جد حسنة وذلك بعد التنويه والإعجاب الذي حظي بهما الأمير النوميدي لما قدمه لها من خدمات عظيمة في حرب النومانس سنة 133 ق.م، ولولا هذا الود الذي طبع العلاقات النوميدية – الرومانية لما تمت تلك المصاهرة إذ علمنا أن الملك بوخوس الأول كان حتى تلك الآونة محافظا على السياسة الخارجية لسلفه. إن هذه العلاقة العائلية بين يوغرطة وبوخوس الأول لا تجعلنا نجزم بأن هذا الأخير يكون قد وقف إلى جانب الأول ضد أذربعل؛ خصوصا إذا ما صدقنا ما جاء به سالوست حول الوضع المهين الذي كان للمرأة البربرية في مجتمع شمال إفريقيا والذي لا يسمح لجعل من مفهوم المصاهرة رباطا سياسيا وحلفا عسكريا. إلا أن هناك إشارة جد واضحة تدل على أن المملكة المورية كانت تقد إلى جانب يوغرطة ضد أذربعل انطلاقا مما صرح به هذا الأخير أمام مجلس الشيوخ الروماني، حيث قال: " ... هل أتجه للشعوب والملوك الذين جعلتهم صداقتنا لكم أعداء لبيتنا..." فالنص وإن كان لم يذكر لنا يحدد لنا أسماء الشعوب والملوك بالتحديد الذين قصدهم أذربعل بخطابه، إلا أننا نرجح أنه كان يعني المملكة المورية لأنها المملكة الوحيدة المعروفة في شمال إفريقيا إلى جانب نوميديا، وهي الوحيدة التي يعنيها أمر هذه الأخيرة. وبالإضافة لهذا، فإن المملكة المورية عرفت ومنذ عهد ملكها باكا بمساندتها للأمراء والملوك النوميديين متى انتزع منهم حقهم وذلك في إطار محلي دون الدخول في صراعات مع القوى الخارجية، ومن ذلك مساندة الموريين لسيفاكس ضد ماسينسا الذي شارك في الحملة التي شنتها قرطاجة عليه. ومآزرة الأمير النوميدي ماسينسا في الدفاع عن حقه المشروع وهو استرداد مملكته. وإذا علمنا أن الأمير النوميدي يوغرطة كان له الحق في تولي العرش النوميدي وفقا تقليد وعرف محلي يقضي بتولية الحكم لأكبر أفراد الأسرة الملكية سنا، جاز لنا أن نعتبر أن بوخوس الأول اتخذ موقفا معاديا لأذربعل، خصوصا بعدما التجأ هذا الأخير لطلب العون والمساندة العسكرية من روما.


نرى إذن كيف أن الموقف الموري من الصراع الذي كان يدور في نوميديا حول مسألة تولي العرش كان موقفا غامضا، فلا تسعفنا النصوص التاريخية الكلاسيكة على تبينه بجلاء، إلا أننا نستطيع القول، من خلال تلك الإشارات التي أوردناها، أن الموريين ساندوا يوغرطة وفقا لتقليد محلي عريق لكي يتربع على عرش أجداده الذي أحق به تبعا لقانون وأعراف تولي الحكم بنوميديا، وسنرى كيف ان المملكة ستتخلى عن مساندة هذا الملك النوميدي عندما سيدخل في صراع مع قوة أجنبية (روما) وذلك لاعتبارات سياسية اقتضتها مصلحة بقاء المملكة المورية أمام قوة الجيوش الرومانية.
نفتقر للدليل التاريخي، سواء في شكله الأدبي أو الأثري، عن الأسباب التي أدت إلى توثر العلاقات بين بوخوس الأول ويوغرطة قبل دخول هذا الأول في الصراع النوميدي – الروماني، فلا نعرف على وجه التحديد السنة التي تم فيها اجتياح الجيوش المورية للغرب النوميدي ولا سبب ذلك، ولولا مشاركة الملك الموري في الصراع الذكر لما أطلعنا المؤرخ الروماني سالوست على أخذ بوخوس الأول للغرب النوميدي بحد السيف. ولعل رغبة هذا الأخير في الانفتاح على روما هو ما جعله يعادي الأمير النوميدي، حتى يتمكن من ترميم التصدع الذي كانت تعرفه المملكة المورية؛ والذي كان يوغرطة السبب فيه، وذلك بإعلان عدوا شعبا عموميا عن طريق افتعال الحرب ضده. وفي هذا الصدد نجد بلوتارخوس يشير إلى العداوة التي كانت بين يوغرطة وصهره الموري، وإلى كون هذا الأخير كان يخاف من تطلعاته ويكره ذلك. كما ان هناك من يفسر سبب الاستيلاء الموري على الغرب النوميدي بالرغبة في التوسع خاصة وأن المملكة المورية لم تكن لها مجالات ترابية مهمة لتحقيق ذلك بعيدا عن يوغرطة والأرض النوميدية، فهي من ناحية الغرب تحد بالمحيط الأطلسي أو ما كان يعرف آنذاك ببحر الظلمات الذي كان يجهل ما وراءه، ومن جهة الشمال كانت تحد بمضيق أعمدة هرقل حيث توجد في العدوة المقابلة للمملكة المورية القوة الرومانية، ومن جهة الجنوب كانت هناك أراضي الجيتول والإثيوبيين؛ حيث الصحاري والمجالات القاحلة التي لا يمكن أن تستفيد منها المملكة المورية في شيء. ولذلك لم يكن أمام بوخوس الأول إلا الشرق حيث المملكة النوميدية المنهوكة القوى من جراء ما عانته في حروبها، وكذا المجالات الزراعية والرعوية التي يمكن أن تغري المتطلعين لتوسيع أعمالهم التجارية والاقتصادية، الذين كانوا يقفون في صف الملك الموري ويحثونه على غزو الأراضي النوميدية ويبدون استعدادهم لتمويل الحملات العسكرية.
لقد أظهر الملك الموري رغبته في صداقة روما قبل التواطئ معها على اعتقال يوغرطة بزمن بعيد، ففي سنة    ق. م أوفد بوخوس الأول سفراء إلى مجلس الشيوخ طالبا عقد حلف معهم، إلا أن هذه العملية لم تتم ويرد ذلك سالوست إلى تدني المستوى الخلقي وتفشي الرشوة بين أعضاء مجلس الشيوخ، الشيء الذي حال دون قيام هذا الحلف وعقد هذه الصداقة، إلا أننا إذا استقراءنا ما جاء به سالوست حول موقف الحزب الشعبي الديمقراطي من احتلال بوخوس الأول للغرب النوميدي، والذي دون شك قوبل بالرفض من قبل أنصار هذا الحزب، وربطنا ذلك بطلب المملكة المورية الحلف مع روما أمكننا أن نستنتج أن سبب فشل هذه السفارة لا يعود لما قاله سالوست وإنما يعود إلى تشبث روما بحقها الشرعي في نوميديا، وهو ما أكده أذريعل في خطابه أمام مجلس الشيوخ الروماني. هذا من جهة، ومن جهة أخرى عدم موافقة بوخوس الأول عن التنازل عما أخذه بقوة السلاح، يكون بذلك سبب فشل هذه المفاوضات يعود لعدم رضا الجانب الموري والروماني بشرط كل منهما والذي كان يدور حول الغرب النوميدي. كما ان ما قلناه يمكن أن يوحي لنا أن سبب غزو بوخوس الأول لهذه المنطقة هو كونه أراد أن يفاوض روما في طلب الحلف والصداقة من موقع قوة وكونه حارب عدوها وبالتالي فإن له فضلا عليها.
بعد فشل هذه المناورات الدبلوماسية المورية، نجد بوخوس الأول ينكمش على ذاته ويعود لنهج سياسة أجداده الحيادية وكان هذه الأخيرة هي الدرع الواقي للمملكة متى أحست بالخطر الأجنبي. ومما يدل على التجاء بوخوس الأول للحياد في الصراع النوميدي – الروماني في هذه الفترة كونه استقبل تارة لاجئين رومان فارين من نوميديا، وتارة لاجئين نوميديين فارين من يوغرطة. لقد كان فشل المفاوضات المورية – الرومانية بدون شك في صالح الأمير النوميدي يوغرطة؛ الذي سعى بكافة الوسائل إلى الحصول على دعم الملك بوخوس الأول في حربه ضد روما. وهكذا عمل على التقرب من خواص الملك الموري ومستشاريه وجذبهم إليه لكي يحثوا ملكهم على إعلان الحرب ضد روما. وفعلا فقد وافق بوخوس الأول على مساندة يوغرطة وفقا لشروط تم الاتفاق عليها وتتلخص فيما يلي: ضرورة عقد صلح مع روما واغتراف هذه الأخيرة بسيادة النوميدي على ثلثي 3/2 تراب مملكته، وسيادة بوخوس الأول على الغرب النوميدي الممثل في الثلث 3/1. وكانت هذه الشروط هي أساس الأرضية التي قامت عليها المفاوضات بين بوخوس الأول ميتيلوس المفاوض الذي عينته روما لهذا الغرض. إلا أن استبدال مجلس الشيوخ لهذا الأخير بالقائد ماريوس عقد مسألة التفاوض؛ فهذا الأخير كان أشد المتعلقين بالحق الروماني في نوميديا كاملا، وبالتالي لم يوافق على ما جاء به بوخوس الأول لتصل بذلك المفاوضات إلى باب مسدود، بل أكثر من هذا نجد القائد ماريوس يقدم على التقدم بجيشه داخل الغرب النوميدي حتى جدود نهر ملوية. وقد عد استيفان اغزيل هذا الاجتياح بكون روما كانت "تريد إظهار نوع من حق الملكية" في الأرض النوميدية كاملة. أمام هذا التصرف الروماني، لم يجد بوخوس الأول الحريص عما أخذه بحد السيف، من بد من الدخول في حرب ضد روما مساندا بذلك يوغرطة بدعوى الدفاع عن حقه في نوميديا الغربية. وبعد جولات حربية عدة ين الجيشين المتحالفين وروما، أحس الملك الموري بوخوس الأول بقوة هذه الأخيرة وبصعوبة التغلب عليها خاصة بعد تلك الضربة التي تلقاها يوغرطة صبيحة انتصارهم على ماريوس، ولعل قدوم ابن الملك الموري فولكس على رأس فرقة عسكرية من الجنود المشاة كمدد لجيش والده دليل على فداحة الخسائر التي تعرض لها هذا الأخير.
إن بوخوس الأول المتطلع إلى صداقة روما حتى وهو يخوض حربا ضدها، إذ كثيرا ما أظهر رغبته في السلم معها، لم يكن ليعلق مصير مملكته بمصير المملكة النوميدية، ولذلك نجده يبحث مرة أخرى عن منفذ للخروج بمملكته سليمة من هذه الورطة؛ ففي سنة 106 ق.م أرسل وفدا إلى القائد الروماني ماريوس المعسكر في سيرتا لإنهاء الشراع العسكري وفتح باب المفاوضات تمهيدا لعقد سلم مع روما، الشيء الذي استجاب له هذه المرة مجلس الشيوخ الذي قرر وضع السلاح والركون إلى المفاوضات مع يوغرطة بوساطة المملكة المورية. ولا يجب أن نفهم أن ركون روما إلى الحوار السلمي على أنه استسلام غير مباشر أمام شدة المقاومة النوميدية، بل إنها أرادت ضرب عصفورين بحجر واحد؛ فهي من جهة ستفاوض من موقع قوة مما يسمح لها يتكييف ذلك مع مصالحها في نوميديا ومورسية، ومن جهة ستحاول أن تذخر قواتها التي رغم انتصارها كانت تصاب بخسائر فادحة وكبيرة، خاصة وأنها في هذه الأثناء كانت تخوض حربا ضروسا ضد غاليا حسبما يشير إليه سالوست في الفصل الأخير من كتابه "حرب يوغرطة". كما أن مجلس الشيوخ الروماني أصبح مقتنعا بأن بوخوس الأول يشكل الورقة الرابحة التي ستضع حدا لهذه الحرب،وبالتالي كان لا بد من استمالته للصف الروماني. وهكذا بدأت المفاوضات بلقاء بين الوفد الروماني والملك بوخوس الأول، وهذا الأول تحت إشراف كل من سولا ومينيلوس اللذان عبرا عن رغبة روما في ربط علاقات طيبة مع المملكة المورية، مشيرين إلى الخطأ الذي اقترفه بوخوس الأول بمساندته ليوغرطة ضدهم. كما حاول الملك الموري من جانبه تبرئة نفسه من هذا الخطأ وأنه ما قام ضد روما إلا ردا على الإهانة التي لحقت سفارته إليها سنة 111 ق.م، وأيضا لتعدي القائد ماريوس على أرض أصبحت تابعة له بحق الاستيلاء، وكأن بوخوس الأول يحمل روما مسؤولية تصرفه الأخير ضدها، ورغب بعد هذا بإرسال وفد إلى مجلس الشيوخ الروماني لطلب الحلف والصداقة، وفعلا تم ذلك وحظي الملك الموري بعفو روماني، إلا أن مشكل الصداقة والحلف بقي معلقا وغامضا؛ ذلك أن الإجابة التي وصلت الملك بوخوس الأول رغم غموضها تنطوي على رغبة روما في تسخير هذا الأخير للقبض على يوغرطة الأمير النوميدي، يقول سالوست في هذا الصدد: "... فأجيب الوفد الموري بهذه العبارات: إن مجلس الشيوخ والشعب الروماني لا ينسون الإحسان والإساءة، ولكن حيث أن باخوس يندم على ذنبه فنحن نوافق على الصفح عنه وسينال حلف الشعب الروماني وصداقته عندما يستحقها...". و لهذا نجد بوخوس الأول يطلب من سولا الحضور إليه للتباحث في "مصالحهما المشتركة"، واستجاب هذا الأخير لطلب الملك الموري وحضر لمعية ابنه فولكس، وفي لقائهما أفضى سولا إلى بوخوس الأول رغبة روما في أن يسلمها يوغرطة كتعبير عن صدق نواياه تجاه الجمهورية الرومانية.

الملك الموري بوخوس الأول

لقد كان طلب سولا بمثابة مفاجأة غير متوقعة بالنسبة للملك الموري الذي أبدى رفضه التام لهذا الطلب وحاول أو يعفي نفسه منه بذكره لروابط القربى والمعاهدة التي بينه وبين الأمير النوميدي، بل إن وقع هذه المفاجأة جعلته يفكر في العودة لسياسة الحياد والانكماش داخل الحدود الأصلية للمملكة المورية، وأبدى رغبته في التنازل عن الغرب النوميدي وتراجعه عن حلفه مع يوغرطة وأن يترك لروما محاربته كما تشاء، وكأن بوخوس الأول هنا ندم على ثورته ضد السياسة لخارجية لأجداده القائمة على مبدأ الحياد.
إن تراجع بوخوس الأول عن مشاركته في الصراع النوميدي – الروماني هذه الرمة لن يكون سهلا؛ إذ أن هناك طبقة اجتماعية مورية تساند يوغرطة ضد روما، هو ما يمكن أن نستشفه من خبر لسالوست عند حديثه عن رد فعل بوخوس الأول لتلبيته الطلب الروماني حيث يقول:"إن هذا الإخلال بعهده يغير عليه قلوب رعاياه الذين يحبون يوغرطة بقدر ما يكرهون الرومانيين". وهذه الطبقة سوف ترفض التراجع عن مساندتها للملك النوميدي، كما أن روما لا يمكن أن تسمح للملك الموري أن ينهج هذه السياسة بعدما تمكنت من أن تجد لنفسها دورا في السياسة المورية؛ فبوخوس الأول وجد نفسه يغوص في تناقض خطير أفضى به، بعد تردد طويل، إلى قبول تلبية الشرط الروماني للحصول على صداقة وحلف روما خاصة وأن مستشاروه كانا بدورهم إلى جانبها بعدما أغرتهم هذه الأخيرة بالأموال.
وهكذا تم التآمر على يوغرطة والإيقاع به بعد أن استدعاه الملك الموري للاجتماع به بدعوى التباحث في مصالحهما المشتركة وذلك سنة 105 ق.م مجردا من سلاحه الشيء الذي يدل على أنه كان ينوي السلم وجاء بنية سليمة لمقابلة حليفه وصهره. فهل كان يوغرطة – الأمير النوميدي الذي أرهق الجيوش الرومانية – يحمل تصورات ساذجة لهذا الارتباط بينة وبين بوخوس الأول والذي كان السبب الأول والرئيسي في هزيمته؟
إن التصرف الذي صدر عن الملك الموري يعد في حد ذاته تصرفا خطيرا، فتسليمه لملك بربري له مكانته داخل مجتمع شمال إفريقيا لأيدي أعداء هذا الأخير كان من شأنه أن يثير حوله ثورات وانتفاضات عدة قد تتسبب في تقويض ملكه وضياع عرشه، ولا يمكن أن يكون بوخوس الأول قد تجاهل هذا الأمر وهو يرد بالموافقة على طلب سولا، بل كان يعلم علم اليقين ما هو مقدم عليه من جراء فعلته هذه وهو ما سنحاول التطرق إليه في موضوع آخر مستقل بذاته.
يبقى أمامنا تساؤلا قليلا ما يثيره الباحثون والدارسون المحدثون، وبتعلق الأمر بهل يمكن اعتبار ما قام به الملك بوخوس الأول خيانة تجاه قوميته البربرية؟
إن الإجابة على هذا السؤال يجب أن تنطلق من سؤال لا يقل أهمية عن هذا الأول، وهو لماذا سلم بوخوس الأول يوغرطة لروما في وقت كان من الممكن لو بقي على حلفه مع الملك النوميدي لقويت جبهتهما ضد العدو الأثيني، خاصة وأن الملك الموري كانت بين يديه غنيمة جد مهمة بالنسبة لروما تجعله يفاوضها وحليفه من موقع قوة؟
إن المساندة والدعم البربري الذي حظي به الأمير النوميدي يوغرطة في صراعه ضد القوات الرومانية سواء من قبل النوميديين أو الجيتوليين أو الموريين دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد أنه كان يخطط لتوحيد الجبهة البربرية في شمال إفريقيا ضد روما، ولعل هذا ما خاف منه الملك الموري بوخوس الأول لأنه من شأنه أن يهدد مملكته في حالة انتصاره، خاصة وأن الملك الموري قبل سنة 111ق.م كان قد أبدى تخوفه من تطلعات صهره النوميدي يوغرطة السياسية والعسكرية في المنطقة.
ويشير المؤرخ سالوست بخصوص دوافع تسليم باخوس الأول للملك النوميدي؛ أنه فعل ذلك لخوفه من انتقام القوة الرومانية منه إذا ما سلم سولا ليوغرطة. فسالوست قدم لنا هنا دليل إدانة الملك الموري بالخيانة، لكنه في نفس الوقت يبرؤه منها حين يقول: " إن العاطفة كانت تخاطبه ضدنا..." وهذا يحملنا على القول أن ما قام به بوخوس الأول كان رغما عنه لكونه قد وجد نفسه أمام أمرين أحلاهما مر؛ فبين يديه غنيمتين: يوغرطة الذي تطالب به روما حتى يتسنى لها السيطرة على المملكة النوميدية بأقل خسائر تذكر، وسولا الذي يطالب به يوغرطة ليفاوض روما في أمر السلم من موقع قوة. وكان على الملك الموري أن يحكم عقله أمام هذه المشكلة التي يحدد حلها في الأصل مستقبل المملكة المورية، فوقع رأيه على تسليم النوميدي للقائد ماريوس بعد تردد طويل، وهو ما يفسر تخوفه من قيام جبهة مورية داخلية ضد تصرفه.
على أية حال،فمهما حاولنا من جهد في بناء صورة كاملة عن الظروف التي أحاطت بالملك الموري وأثرت في إتخاذه لهذا القرار، سنبقى عاجزين عن ذلك، لأنه لا يمكننا في الدراسة التاريخية، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالشخصيات ذات الوزن التاريخي، أن نلم بالظروف النفسية والنوازع السيكولوجية التي أثرت فيها وساهمت في صياغة تصرفاتها والتي يكون لها بالغ الأثر على مستقبل الشعوب التي تقع تحت مسؤولية تدبيرها.
إلا أنه مع ذلك، يمكننا القول أن بوخوس الأول فعل ما فعله نتيجة اعتبارات سياسية اقتضتها مصلحة بلاده من الوجهة التي كان ينظر منها إليها، ولا يمكن لومه أو وصفه بالخيانة لبني جلدته البربر، فمصلحة مملكته وضمان استقلالها النسبي كان هو الهاجس الأول والأخير للملك الموري أمام رغبة القوة الرومانية التي كانت في أوج عنفوانها وبأسها. لكن ذلك لم يشفع له عند العديد من الدارسين والباحثين الذي وصفوه بالخيانة وغياب روح القومية البربرية لديه، ومنهم المؤرخ شارل أندريه جوليان وغيره، وإن كانت أحكامهم تؤخذ بتحفظ لطبيعة كتابتهم التاريخية الاستعمارية الموسومة بكثير من التحامل على البربر (الأمازيغ) وتاريخ الشعوب التي كانت هدفا لعملياتهم الإمبريالية.                       

المراجع:
·        عبد الهادي التازي، " التاريخ الدبلوماسي للمغرب منذ أقدم العصور إلى اليوم"، مطابع فضالة، المجلد الثالث، المحمدية، 1978.
·        حول المراسلات بين بوخوس الأول وميتولوس يشأن التفاوض أنظر الصفحة 83 من كتاب حرب يوغرطة.
·        G.CAMPS, « l’Afrique du nord ou féminin : Héroïnes du Maghreb et du Sahara », Perrin, Paris, 1995.
·        M. Tarradelle, « Marruecos Punicos », Editorial Cremades, Tetouan,1960
·        J.Carcopino, « Les étapes de l’impérialisme romaine », Hachette, Paris, 1961
·        F.Decret et M.Fantar, « l’Afrique du nord dans l’antiquité, histoire et civilisation », Patot,Paris, 1981
·        S.Gsell, « Histoire ancienne de l’Afrique du nord », Vol 08,Hachette, Paris, 1913.
·        محمد القصري، "مذكرات من التراث المغربي"، الجزء الأول، مطابع الأطلس، الرباط، 1984.
·        عبد اللطيف أحمد علي،" التاريخ الروماني عصر الثورة"، دار النهضة العربية، بيروت، 1973.
·        شارل أندريه جوليان، "تاريخ إفريقيا الشمالية"، ترجمة محمد مزالي والبشير بن سلامة، الدار التونسية للنشر، الجزء الأول، 1978.
·        محمد الهادي حارش، "التطور السياسي والاقتصادي في نوميديا منذ اعتلاء مسينسا العرش إلى وفاة يوبا الأول"، رسالة ماجستير  في التاريخ القديم، جامعة الجزائر، معهد التاريخ، 1985.
·        سالوست، "حرب يوغرطة"، ترجمة محمد التازي سعود، مطبعة محمد الخامس الجامعية والثقافية، فاس، 1979.
·        عبد الله العروي، "مجمل تاريخ المغرب"، الجزء الأول، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، الدار البيضاء، 1996.
·        محمد مجدوب،" الموريين وعلاقتهم بروما إلى غاية 33 ق.م"، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، كلية الأداب، فاس، 1990.
·        محمد مجدوب،" أضواء على أوضاع مورسية من خلال حرب يوغرطة"، مجلة بحوث، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، العددان 2.3، المحمدية، 1990.
صورة القنصل والقائد الروماني سولا الذي قاد المفاوضات مع بوخوس الأول لتسليم يوغرطة، رأس الثمثال يوجد بمتحف ميونيخ

صورة القائد ماريوس الذي ألقى القبض على يوغرطة

 الملك ماسينيسا موحد مملكة نوميديا

يوغرطة ملك نوميديا ولد سنة 160 ق.م ، وتوفي سنة 104 ق.م








    

الاثنين، 24 ديسمبر 2018

شارع ألفونسو الثالث عشر


شارع ألفونسو الثالث عشر


محمد عزلي

فتح هذا الشارع المسمى اليوم (المسيرة الخضراء) في بداية القرن العشرين من قبل سلطات الحماية الإسبانية كممر رابط بين السوق الصغير وشارع الملكة فكتوريا (شارع محمد الخامس حاليا)، وهو أحد نتائج مشروع التوسعة Ensanche الذي أسس لعملية تعمير مدينة العرائش خارج أسوارها، فقد كان السوق الداخلي قبل هذا التاريخ محاطا بأسوار القرن السابع عشر تم إزالة معظمها قصد بناء المدينة الجديدة من جهة باب الغريسة، ثم جهة باب المدينة، وكذا باب القصبة الذي يتخلل السور الوطاسي من الجهة الغربية للقصبة، والذي بني في مكان محمي تلتقي عنده ثلاثة طرق تؤدي الأولى إلى المرسى عبر كايي ريال، والثانية إلى حصن البحر عبر السوق الصغير، أما الثالثة فتقود إلى الحقول الواقعة جنوب المدينة سابقا والتي أصبحت نواة المدينة المعاصرة، وهي نفس الطريق التي أصبحت شارعا أطلق عليه اسم ملك إسبانيا آنذاك ألفونسو الثالث عشر [1941/1886].
الصورة عبارة عن بطاقة بريدية إسبانية لدار الطباعة والنشر غويا Edicion Goya توثق لنا  التغير الواضح الذي طرأ على المشهد العام للفضاء، أهمها بناية قيادة المهندسين يساراً والتي هدمت أواخر الثمانينات حيث توجد اليوم ساحة المسيرة، ثم يمين الشارع حيث بناية قصر البلدية لم تأخذ بعد شكلها الحالي.

الأحد، 23 ديسمبر 2018

الباخرة كويتزال


كويتزال، الباخرة التي صارعت الوحش  


   محمد عزلي

الاسم :
الكويتزل هو طائر بهي جميل تشبه تشكيلة ألوان ريشه العلم الفلسطيني (الصورة 6)، يصنف من عائلة الطرغونية، يتواجد في الغابات والأراضي الحرجية، وخاصة في المرتفعات الرطبة الاستوائية بأمريكا اللاتينية (غواتيمالا، بانما، كوستاريكا..).
الباخرة :
كانت الباخرة "كويتزال" جاهزة للإبحار لأول مرة في 14 مايو 1867 بحوض بناء السفن "هنديرسون، كولبورن وشركاه" في بلدة رينفرو بضاحية العاصمة الاسكتلندية كلاسكو حسب دليل "غريس" وهو المصدر الرئيسي للمعلومات التاريخية عن الصناعة والتصنيع في بريطانيا، كان اسمها "كيلبي" عند الإنشاء، وأول مالك لها هو جيمس إتش كلايتون من لندن سجلها في كلاسكو بتاريخ 29 يونيو 1867، طول السفينة 98.7 قدم، عرضها   15.1 قدم، وارتفاعها 9 أقدام. وزنها الصافي 30 طن، حمولتها 60 طن، وقدرتها القصوى تصل إلى 102 طن حسب النظام القديم "مورسم"[1].*
تعاقبت السفينة على ملاك بريطانيين وهم على النحو الآتي: (1869، فريدريك جريتون، من بيرتون)؛ (1873، ألبرت وود، من تشيستر)؛ (1875، جورج راي، من ليفربول)؛ (1877، جيمس موفات، من كيلسو باسكتلندا)؛ (1880، توماس نيوتن، من وركشير الإنجليزية). ثم انتقلت الباخرة سنة 1894 إلى إسبانيا بعد أن اشتراها خوسي مارتينيز دي رودا "ماركيز دي فيستابيلا" عضو مجلس الشيوخ لدى الملك الإسباني ألفونسو الثالث عشر (الصورة 3)، وهو من أسماها "كويتزال"[2]، وعين عليها القبطان خوان غونزاليس كوينكا قبل أن يبيعها في مايو 1898[3] إلى المركيز خوسي فرير فيدال وسولير (الصورة 4)، وهو مصرفي، سياسي، ورئيس نادي اليخوت في مدينة برشلونة[4].*
ومع انتقال الباخرة كويتزال إلى ملكية ميغيل دياز بينتو (ميغيليتو) الذي كان يقودها بنفسه ابتداءً من العام 1905[5]، وتوقيع المغرب لمعاهدة الجزيرة الخضراء سنة 1906 التي خولت للقوى الإمبريالية تنسيق مصالحها الاقتصادية والسياسية في البلاد، أصبحت كويتزال سفينة شحن تعمل على الساحل المغربي، وتقوم بأربع أو خمس رحلات شهريًا بين طنجة (الصورة 5)، والعرائش (الصورة 1)، إضافة إلى موانئ أخرى بالضفة الأيبيرية أهمها جبل طارق وقادش، هذه الأخيرة كانت آخر ميناء ترسو فيه كويتزال قبل أن تغرق وهي مبحرة صوب العرائش عبر طنجة في 17 أو 18 أكتوبر 1916 بعد أن اشتعلت فيها النيران، ولم ينجوا من المسافرين عليها إلا القليل ممن أسعفهم الحظ وقاوموا قسوة المشهد قبل أن تصلهم أول سفينة عابرة[6].


كويتزال ومرسى العرائش :
شكلت الباخرة كويتزال أهمية بالغة لدى السلطات الرسمية الإسبانية التي استعملت الباخرة بشكل قار ومكثف في مرسى العرائش وذلك لأسباب رئيسية ثلاث :
1.   صغرها، وبالتالي قدرتها على الدخول إلى مرسى العرائش الشهير آنذاك بخطورة الولوج إليه، رغم أن الباخرة في الأصل بنيت للسفر والترفيه في المياه الهادئة[7].
2.   تعدد الاختصاصات، حيث كانت الباخرة تقوم بنقل السلع والمسافرين المدنيين، كما كانت البحرية الإسبانية تعتمد عليها لنقل القوات العسكرية، السلاح، والسجناء. وقد لعبت الباخرة دورا هاما وحاسما في الإنزال العسكري الإسباني بمرسى العرائش عند احتلالها سنة 1911.
3.   قدرتها التنافسية، وهذا ما تشير إليه الأرقام والإحصائيات المتعلقة بالصادرات والواردات التي حملتها السفن والبواخر من وإلى مرسى العرائش بين سنتي 1908 و 1909، حيث كانت الهيمنة واضحة للسفن البريطانية ثم الألمانية ثم الفرنسية على حساب الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والنرويجية والدنماركية والمغربية سنة 1908، بينما تحسن النشاط الملاحي والتجاري الإسباني بشكل ملحوظ في السنة الموالية على حساب البواخر البريطانية، وقد كانت كويتزال سببا مباشرا في هذه النتيجة[8].
وعن مغامرات الباخرة كويتزال بالساحل المغربي وعند المدخل الرهيب لمرسى العرائش نشر مدير صحيفة "إمبارسيال" الإسبانية، لويس لوبيز باليستيروس في عدد الأربعاء 26 أبريل 1911 تلك الأوقات العصيبة التي مرت على الراوي في ليلة مظلمة لم يكن يعتقد أنه سينجو منها، صحبة شخصية مغربية شجاعة (محمد بن الرايس) وصاحب السفينة وربانها ميغيل دياز بينتو (ميغيليتو) الذي وصفه بأنه "... يعرف كل شيء طنجة، العليق، العبرية، الإسبانية، الكتلة السكانية..."، وكان مفتخرا بكونه يستطيع الدخول إلى مرسى المدينة التي تخيف قباطنة كل البواخر الأخرى وتجعلهم يكتفون بالنظر إلى العرائش من بعيد.
المعاناة تبدأ حسب الراوي منذ الانطلاق من مرسى طنجة عند الرصيف أو الحاجز الصخري، فالصعود إلى الباخرة يقتضي بالضرورة المرور عبر قارب خشبي صغير لا يمكن رؤيته في حلكة الليل، "... لكن لم تكن هناك قوارب، ولا ملاحون، ولا طريقة محتملة لنقل البضائع... وبينما كانت الأمواج تغطي بالكامل سلالم المراكب الصغيرة، كان يجب إطلاق القارب من حاجز الأمواج؛ أي كان علينا القفز إلى الفراغ بافتراض أننا سنقع في قارب لا يمكن رؤيته..." ويثني الراوي على القبطان المحنك ميغيليتو وفطنته ومرونته وعلى شجاعة محمد وحسن تصرفه بتأمين نقل السلع ثم الأمتعة على متن القارب ومساعدته على القفز ثم الصعود للباخرة كويتزال بشكل شبه عمودي وكأنك صاعد للطائرة.
هذه الرواية الواقعية هدية وثائقية غنية بالتفاصيل الدقيقة، منها أن الباخرة تحولت من مركب ترفيهي فاخر إلى ما يشبه حافلات الأرياف بسبب كثافة الرحلات ذهابا وإيابا وكثرة الحمولة مما يجعلنا نكون انطباعا عن شكل الحركة الملاحية عموما والتجارية تحديدا، كما يصور لنا الأهمية التي أعطيت لمرسى العرائش مقارنة بكاب سبارتيل وأصيلة التي يقول عنها الراوي أنه لا يجد فيها ما يذكر سوى أنها بلدة صيد صغيرة بين العرائش وطنجة غرب المستعمرة الرومانية زيليس. أما العرائش يقول الراوي فهي بعد أصيلة على مسافة ساعتين من الإبحار يستغلها القبطان ميغيليتو بممارسة "رياضة" قصف الدلافين بمسدسه "الماوزر"، قبل أن تلوح المدينة للناظرين ببياض لونها وحزامها الرمادي المكون من أسوارها الدفاعية التي بناها الإسبان زمن الاحتلال الأول في القرن السابع عشر، ومآذنها النحيلة، إنها العرائش "...  الحصن الحقيقي لأعشاش القراصنة المشهورة وغير القابلة للاستئصال عبر التاريخ ... كل الجهود للسيطرة عليها من قادة البحر العظماء كانت عديمة الفائدة... ساكنتها الساحلية الأصلية الشجاعة من المدافعين والمتواطئين مع القرصنة المتوحشة في جميع الأوقات، كانت هي العقبة التي تحطم بها غضب أوروبا...".
عند وصول الباخرة إلى الساحل المقابل للجرف الصخري حيث تربو العرائش، كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحا، والوصول في ضوء النهار شرط هام لتحقيق السلامة في الممر الرهيب المؤدي إلى المرسى، القبطان في كامل تركيزه مستعينا بخبرته يثبت كلتا يديه في المقود مبديا ثقة وحزما، عيناه لا تفارقان الشريط الساحلي الخطير "فم السبع"، عليه أن يأخذ مسار مصب وادي لوكوس في نسقه الأكثر عمقا، فالممر خطير على البواخر حتى مع بناء حاجز الأمواج الجديد الذي لم يكتمل بعد، ورغم هدوء الصيف، وذلك بسبب الأمواج العالية والحاجز الرملي وتفاوت مستويات العمق التي تفرضها ظروف المد والجزر وما يحمله النهر العظيم من ترسبات. دخلت الباخرة إلى مخاضها مستسلمة للأمواج تتلاعب بها تارة في السماء وتارة في قعر الماء فارضة هيبة المكان على المسافرين المتشبثين بالأعمدة الحديدية والأجسام الثابتة، وحتى على ميغيليتو الفخور بمجده المتكرر باختراقه الناجح في كل مرة. وفجأة تهدأ الأمور وتصبح أشبه بنزهة فاخرة بعد أن تجد السفينة خطها بقناة الوادي التي ستوصل كويتزال بأمان إلى رصيفها بالمرسى. وفي وصف المشهد، ووصف العرائش يقول الراوي "... تنساب كوتزال في القناة الواسعة المحاطة بالكثبان الرملية، بجوارها توجد جزيرة رائعة من المساحات الخضراء... وإذا ما اكتمل بناء المرسى ستقل أهمية طنجة، وستصبح العرائش أهم ميناء في المملكة نظرا لسهولة الوصول منها إلى العمق المغربي، كما أن كل تجارة الغرب والجنوب تتم عبر العرائش، الإسبان يعرفون قيمتها الحقيقية وأهميتها العسكرية الهائلة، إنها مفتاح طرق الغرب وفاس (جنة المغرب الحقيقية)... تقع المآثر القديمة في حدائق الهيسبيريديس التي أصبحت اليوم مراعي السلطان الشهيرة، حيث تتكاثر أفضل الخيول المغربية الرائعة وجميع أنواع الماشية، بين الخضرة الدائمة على ضفاف نهر لوكوس الذي يروي غابات كاملة وبساتين البرتقال وأشجار الليمون وأشجار الفواكه من جميع الأنواع ... من الرائع أن نفكر في ما يمكن القيام به كدولة في العرائش باستخدام الظروف الطبيعة، وواد لوكوس الذي يمكن الملاحة فيه إلى القصر الكبير، واستخدامه كطريق تجاري تكفي فيه الحبوب المزروعة في الأراضي الداخلية الشاسعة لضمان ازدهار تجاري هائل..."*
وفي رواية أخرى نشرها صحفي بنفس الجريدة (إيمبارسيال) بتاريخ 24 يونيو 1911، تحدث  ألفريدو ريفيرا عن ليلة الاختبار والساعات الخمس من العذاب الفظيع في رحلته من طنجة إلى العرائش على متن الباخرة كويتزال بتاريخ 19 يونيو 1911، عشرة أيام فقط بعد الإنزال البحري الإسباني بالعرائش واحتلال حاضرتي اللوكوس (العرائش/القصر الكبير)، كانت السفن الحربية الإسبانية هناك عند مشارف الساحل المقابل للعرائش، مرت كويتزال من بين القطع الثلاث (ألميرانطي لوبو، كاطالونيا، وكارلوس الخامس) لتبدأ بعدها أخطر مراحل الرحلة وهي الدخول إلى مرسى العرائش، حتى أن ميغيليتو ربان السفينة قال لألفريدو "هذه الرحلة أسوأ من تلك التي قمت بها مع مديرك، لكن لا تقلق، سوف تنجو". كانت حالة البحر سيئة للملاحة والدخول إلى مرسى العرائش مستحيلا مع تلك الأمواج العاتية، فقد مرت أربعة أيام يقول الراوي قبل ذلك التاريخ لم تعبر سفينة فوهة الوحش أو فم السبع أو مدخل قناة الوادي المؤدي إلى المرسى، ورغم الصراخ والتحذيرات من طاقم السفينة الفرنسية (أناطولي) القادمة من مرسيليا، قرر ميغيليتو ركوب الخطر والمضي قدما بمناورة سريعة اخترق بها جدران الأمواج التي تلاعبت بالسفينة بين السماء والهاوية، وبعد لحظات عصيبة، تجاوزت كويتزال الحاجز الرهيب وطفت برفق على مياه الوادي إلى المرسى الخطير محملة على الخصوص بانتصار جديد للربان الشجاع ميغيل دياز بينتو (ميغيليتو)*. 
السفينة كوتزال لعبت أدورا هامة إبان عملية احتلال العرائش والفترة التي تلتها، سواء تعلق الأمر بنقل الجنود والمعدات والأسلحة للقوات المحتلة، أو بالدور التمويني والتجاري والخدماتي، حتى أن المخزن المغربي نفسه استفاد من رحلاتها، حيث استورد من خلالها منتجات أوربا العصرية وما أبدعته الصناعة والتكنولوجيا الحديثة، وهو ما يؤكده مقال آخر بجريدة (أبيسي) الإسبانية بتاريخ 26 يوليو 1911 يشير فيه إلى وصول معدات التلغراف اللاسلكي إلى مرسى العرائش على متن الباخرة كويتزال*.
وفي العام الموالي 1912 تسلم القبطان ميغيليتو مكافأة شرفية على شجاعته الكبيرة رفقة قائد الميناء وقبطان سفينة التريكي المخزنية سيدي محمد الكوش، وأيضا المهندس الألماني د. أدولفو بوبرغ المسؤول عن نفس السفينة التي أصبحت قاطرة ساحبة للسفن العالقة أو غير القادرة على العبور إلى مرسى العرائش، وذلك لتدخلهم الشجاع والحاسم لإنقاذ سفينة شراعية إسبانية تدعى "خوسي كوبيرو" تهالكت بين أمواج مدخل الميناء وكانت في طريقها للغرق الحتمي، جاء هذا مقال آخر صدر عن نفس الجريدة (إمبارسيال) بتاريخ  في 21 فبراير 1912*.
هكذا كتبت الباخرة الإسبانية كويتزال اسمها واسم قائدها ميغيل دياز بينتو (ميغيليتو) بأحرف من ذهب في سجل الشجعان الذين لم يهابوا المرسى التي أرعبت الأجانب على مر العصور، فكانت إحدى أهم أدوات الاحتلال الإسباني رغم صغرها ومحدودية حمولتها، وقد واصلت لعب الدور المنوط بها عسكريا وتجاريا إلى غاية 1916 حين احترقت ناراَ وسط المحيط وغرقت بين قادش والعرائش.

[1] نظام مورسم Moorsom استخدم في بريطانيا العظمى كطريقة لحساب حمولة البواخر والسفن الشراعية كأساس لتقييم الرسوم. تم استخدامه أول مرة عام 1849 وأصبح قانونًا بريطانيًا عام 1854.

[2] انظر المعطيات ومصدرها في (الصورة 2).
[3] جريدة La Vanguardia الإسبانية عدد الثلاثاء 24 مايو 1898 ص 3.
[4] Perpiñá García, F. (1907). Biografía del Excmo. é Ilmo. sr. D. José Ferrer-Vidal y Soler. Barcelona
[5] جريدة La Vanguardia عدد السبت 8 يوليو 1905 ص 8.
[6] Diario De Cadiz, Hace 100 Años, 1916 Naufragio del Vapor Quetzal, 20/10/2016.
[7] Diario El Imparcial, Luis López Ballesteros, en un viaje que fue transcrito el miércoles 26 de abril de 1911
[8] Memorias diplomáticas y consulares e informaciones, 1910, N° 232 P14 / N° 250, P6
(*) El Vapor Quetzal Y La Barra De Larache, vidamaritima.com, 09/06/2017