بقلم :
عبد الحميد بريري
يعتبر الشيخ عبد السلام بن مشيش نموذج للرجل الصالح في التاريخ
المغربي ومثال يحتدى به في يومنا هذا . فهو ينتمي إلى جيل صنع حضارة الموحدين ومثل
أخلاق الإسلام في الزهد والبعد عن الملاهي والمغريات التي تلهي الأمة على بناء
القوة والمحافظة على الهوية الإسلامية والدفاع عنها مما يهدد بنيتها ووحدتها ويفتت
لحمتها. سأحاول من خلال هذا المقال إبراز شخصية الرجل الخلقية والظروف
سوسيو- سياسة التي أحاطت بحياته التي غابت في التعاريف التي عرفت به ، غير مجتر
للمواضيع التي كتبت حوله ، بالتأريخ له وتسليط الضوء على الفترة التي عاصرها
من تاريخ المغرب وربطه بالمحيط الذي تواجد فيه لفهم الطريق الذي نهجه .
الظرف السياسي لحياته وموطنه :
عاش الشيخ عبد السلام بن مشيش المتوفى حوالي 623 هجرية / 1228 ميلادية وقيل 625 في العهد الموحدي (541 ه / 1146 م - 668ه / 1273 ) الذي يعتبر من أزهى العصور التي شهدها المغرب ، قيما ودولة وقوة ومنعة وثقافة وحضارة ، لا زالت تشهد على ذلك المعالم الأثرية والإنتاجات الفكرية في المغرب والأندلس ، وعاصر انتصار الأرك سنة 591 هجرية / 1195 أو 1196 ميلادية وهزيمة العقاب حوالي 608هجرية / 16 يوليوز 1212 ، وقد وصلته أصداء الأندلس التي بدأت تتداعى فيها منعة وقوة الدولة الإسلامية حيث كانت تتعرض لهجمات المماليك النصرانية رغم محاولات الموحدين إعادة هيبة المسلمين بها بسبب حياة المجون واللهو التي أضحت عليها وحرص الكنيسة الكاثوليكية على طرد المسلمين والقضاء على الإسلام بالأندلس .
ولد الشيخ عبد السلام حوالي سنة 543 هجرية موافق 1148
ميلادية وقيل بين 559 و563 في جبل العلم بقبيلة بني عروس ، بالهبط الذي كان
تنتمي إليه مدن عريقة كأصيلا وتشميس والعرائش وقصر عبد الكريم والبصرة وهي مدن
عمرها الأدارسة أجداده وحكمها يحي الأول بن إدريس الثاني بعدما قسم أخوه محمد
المغرب بين إخوته ، وبقيت ملجأ ومسكنا لهم احتموا به من اضطهاد موسى بن أبي
العافية قائد العبيديين بالمغرب . و قد لا يخلو اليوم بيت من بيوت هذا الإقليم لا
ينتمي أحد أفراده إلى النسب الإدريسي . وقبيلة بني عروس هذه ، سميت باسم جده
سلام الذي كان عروسا يوم جاء السكان الأولون وبالخصوص أولاد الرواس وأولاد العافية
وأولاد بوحراث ... يطلبون من مزوار جدهم الأكبر الذي استقر في قبيلة سماتة
استقدامه أحد أبنائه للعيش معهم تيمنا بشرفهم وبأنهم من أحفاد الأدارسة ، فاختار
لهم إياه دون باقي أبنائه وبذلك أصبحت تسمى القبيلة بحالته التي كان عليها :عروس .
كما أن برابرة بني عروس كما ذكر ابو القاسم الزياني هم الذين أسسوا مدينة على
الضفة اليسرى لنهر اللوكوس وهي التي ستحمل اسم العرائش فيما بعد ، واتخذها إدريس
الثاني منطلقا لأسطوله البحري الناشئ في المحيط الأطلسي .(1)
حكم المغرب خلال فترة حياته سلاطين عظام يحبون العلم والعلماء
والأتقياء والصالحين بدءا من المهدي بن تومرت القائم بدعوة الموحدين الذي درس علم
الحديث وعلم الكلام في الشرق متخلقا بقول الحق لا يخاف لومة لائم ، ناهيا عن كل
منكر شاهده ، وعاد إلى المغرب هو وتلميذه عبد المومن بن علي من المغرب الأوسط حيث
تأثر بمذهبه ، ويوسف بن علي الفيلسوف والمجالس للفلاسفة كابن طفيل وابن رشد
. وأبرزهم على الإطلاق يعقوب المنصور السلطان الصالح والعادل الذي كانت له
علاقة ود ومحبة مع الأولياء والمتصوفة والفقهاء وعلماء الحديث الذين تكاثروا
فيغدق عليهم بالعطاء ويكرمهم ويطلب منهم الدعاء له ويدعوهم لمجلسه ويتبرك بهم
ويزورهم ويشهد جنائزهم. وذكر ذلك محمد الشريف (2) في كتابه ناقلا لشهادة عبد
الواحد المراكشي حيث يقول : " وانتشر في أيامه الصالحين والمتبتلين
وأهل علم الحديث صيت ، وقامت لهم سوق ، وعظمت مكانتهم ومن الناس ، ولم يزل يستدعي
الصالحين من البلاد ويكتب إليهم يسألهم الدعاء ، ويصل من يقبل صلته منهم بالصلات
الجزيلة وأضاف أيضا عن صاحب روض القرطاس أن المنصور : " كان يشهد جنائز
الفقهاء والصلحاء والفضلاء وأجرى على أكثرهم الإنفاق من بيت المال " . وفي
حياته وقعت معركة الأرك التي كانت حدثا بارزا في الغرب الإسلامي وانتصارا مذويا
على ما كان يخطط له النصارى من طرد المسلمين من الأندلس مبكرا . و يصف ابن عذرى
أصداء هذه المعركة في الأوساط الشعبية قائلا : " جاءت هذه الوقعة هنيئة
الموقع ، عامة المسرة كأكلة جائع وشربة عاطش ، فأنست كل فتح بالأندلس تقدمها وبقي
بأفواه المسلمين إلى الممات ذكرها " وأشرك المنصور في هذه المعركة فقهاء
المغرب وصلحاؤه حسب ما ذكره ابن أبي زرع (3) . لكن بموت هذا السلطان سيدخل الغرب
الإسلامي عهد جديد عهد اضمحلال الدولة الإسلامية به وأفول نجمها حيث كانت
معركة العقاب ،التي تحالفت فيها المماليك النصرانية باستثناء ليون بدعوة من
البابا وشارك فيها متطوعين فيهم الفرسان والمغامرين في الوقت ذاته كان الموحدون
منشغلين بمتابعة فلول المرابطين في افريقية تحت قيادة أبرز قوادهم أبو سعيد الحفصي
الذي غاب وهو الذي كان حاضرا في معركة الأرك ،حسب المؤرخين بداية العد
التنازلي للتواجد الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية وتوالت النكسات تلوى النكسات
وسقوط قرطبة إحدى أكبر معاقل العلم بالأندلس . نكسة كانت لها وقع كبير على نفوس
المغاربة والأندلسيين خاصة ولم يمر على الانتصار الكبير في الأرك إلا 17 سنة ،
الشيء الذي انعكس ذلك على سلوك الناس وأبرز مظاهره ظهور النساك والعباد والمتصوفة
وانزواء منهم للتبتل والخلوة .... وهو الأمر الذي استنتجه أحد المفكرين أن إيديولوجية
التصوف نتاج أزمة . وبما أن الإنسان ابن بيئته كما هو معروف فلن يكون شيخنا بعيد
من هذا ومنفصل تمام الانفصال عن مجتمعه الإسلامي حاملا لهمه ومتبنيا لمشاكله . فلا
غرابة أن نجده يتأثر بذلك وينزوي إلى العبادة في كهف مختتما حياته بعدما قسمها إلى
مراحل بين طلب العلم في الصغر والشباب وتربية الأبناء والجهاد في كهولته
والتفرغ للعبادة في شيخوخته مختليا لظروف تكون هزيمة العقاب وتصدع الدولة بالأندلس
وحال المسلمين بها إحدى أسبابها .
وقد اعتمد الطاهر اللهيوي في كتابه حصن السلام في إثبات جهاد
الشيخ عبد السلام بسبتة نقلا عن عبد الحي الكتاني بوثائق عند هذا الأخير . فمن غير
المستبعد إذن أن يكون الشيخ قد تأثر بهذه الهزيمة وهو الذي جاهد بالأمس وحقق النصر
أو عاشه وفرح به للمسلمين فانزوى للتعبد (4). هذا لا يعني أن الشيخ لم يعد يحتك
بمحيطه وإنما كان حاضرا في مواجهة ابن أبي الطواجين الكتامي الذي أتى بمنكر عظيم
وجلل وادعى النبوة فما كان من الشيخ إلا نهاه عما يفعل بالدليل والحجة الشيء الذي
كان سببا في استشهاده دفاعا عن الحق من طرف أعوان الداعي . وبسبب هذا والطموح إلى
الحكم يقول ابن خلدون وصلت إليه جنود من سبتة لمحاربته وقد " استفحل أمره
لضعف الدولة إلى أن وصل إلى واد لو حيث قضي عليه " . ودفن الشيخ عبد السلام
في قمة جبل العلم والذي عثر على قبره الشيخ عبد الله الغزواني حين كان يقيم في
قبيلة الأخماس قرب شفشان في بداية القرن العاشر الهجري
مذهبه العقدي والأخلاقي :
تربى هذا الجيل من المغاربة على العقيدة الأشعرية وهي في العموم ومن حيث المبدأ العقيدة الإسلامية التي جاء بها القرآن والسنة التي تبتعد عن تجسيم الذات الإلهية وتنزيهها عن كل وصف مادي وهو ما عليها أغلب علماء الأمة . وقد أعطاها زخما وقوة بالمغرب مِؤسس الدولة الموحدية والقائم بأمرها المهدي بن تومرت . ويجمع بعض المؤرخين أن المهدي بن تومرت بمذهبه القائم على التوحيد والنهي على المنكر هو الذي رسخ العقيدة الإسلامية في نفوس المغاربة ولا زال أثارها إلى اليوم .
دخل المغرب قادما من الشرق و هو ينهى الناس عن
المنكر كلما مر على قرية من قرى المغرب الأقصى . ولقيت دعوته استجابة واسعة خاصة
في سكان الجبال وعليها قامت الدولة الموحدية . كانت له طريقة خاصة لتحفيظ مبادئ
مذهبه باللغة الأمازيغية التي كانت لسان أغلب سكان المغرب " أنه كان يسند إلى
كل فرد من مجموعة ما كلمة في جملة تكون بمثابة الاسم له ويطالب بحفظها ، وفي كل
يوم تقع مناداة جميع الأفراد فيفوه كل واحد منهم باسمه في ترتيب لا يتغير حسب نظام
الكلمات في تلك الجملة لا تمضي أيام قلائل حتى تكون الجملة محفوظة عن ظهر قلب
" (4) . و بفرض الموحدين هذا المذهب قطع الطريق على انتشار الملل
والنحل التي عرفها الشرق الإسلامي ولا يزال المغرب اليوم يتبنى مذهب اهل السنة
والجماعة عقيدة وشريعة . " والواقع ان فرض العقيدة التومرتية بنزعتها العقلية
الجافة داخل المجتمع المغربي ، حيث أفرز ذلك التيار تطورا على مستوى السلوك
والممارسة ..." (5)
في هذه الظروف ، وبعد ترسخ هذه القيم في المجتمع
المغربي وتمثلها في السلوك والأفعال حتى قال المؤرخون " ... وقد
بلغوا في الرقي الخلقي إلى درجة عظيمة " حيث " إن الرجل كان يسقط
منه الدينار فلا يأخذه أحد، ويبقى في مكانه إلى أن يرجع إليه صاحبه. وكان القضاة
يجلسون للحكم الشهر وأكثر فلا يأتي إليهم أحد " (6).
اتخذ الشيخ عبد السلام بن مشيش لنفسه طريقا ولم
يسلك طريقة ولا تركها ولم يلزم بها أحدا (7)، رغم وجود طرق التصوف المنتشرة
بالمشرق التصوف الفلسفي والنظريات الإشراقية وإنما اختار لنفسه طريق الزهد
السني الذي يستند على الكتاب والسنة كالجنيد والفضيل ابن عياض وعبد القادر
الجيلالي .
يحكي أبو الحسن الشاذلي تلميذ الشيخ عبد السلام بن
مشيش :
" دخل رجل على أستاذي فقال له : وظف لي وظائف وأورادا. فغضب الشيخ
منه وقال له :
رسول أنا. اوجب الواجبات ؟
الفرائض معلومة والمعاصي مشهورة ، فكن للفرائض
حافظا ، وللمعاصي رافضا ، واحفظ قلبك من إرادة الدنيا ، وحب النساء ، وحب الجاه ، وإيثار
الشهوات ، واقنع من ذلك كله بما قسم الله لك . إذا خرج لك مخرج الرضا ، فكن لله
فيه شاكرا ، إذا خرج لك مخرج السخط ، فكن عنه صابرا ، وحب الله قطب تدور عليه جميع
الخيرات ، وأصل جامع للأنوار والكرامات . " (8)
من خلال هذا النص يمكن إثبات تأثير مذهب المهدي في
المجتمع المغربي آنذاك وشيخنا أحد أفراده والحرص الذي كان عند المهدي لتعليم
العقيدة الأشعرية للمغاربة وترسيخها في قلوبهم في إطار الإصلاح الديني الذي جاء به
وبانتقاد الفقهاء وتعصبهم للفروع دون الرجوع إلى المصادر الأولى للتشريع
الإسلامي التي هي الكتاب والسنة والإجماع .
مذهب المهدي قبل أن يتبلور إلى مذهب سياسي كان
يتكون من شقين شق عقائدي وشق أخلاقي. العقيدة عنده تنبني على توحيد الله في الذات
والصفات وعدم تجسيمها وأخلاقي يقوم بالأساس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (9).
الشيخ عبد السلام من خلال مأثوراته هاته ، نستنبط
توحيده الخالص بأن الإله هو الله أرسل رسول يبلغ عنه الأوامر والنواهي لتحقيق
الألوهية والربوبية له ، فالله هو الحاكم وهو الذي يضع الشرائع والأحكام وعلى
المسلم الامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه ثم ينتقل بوصاياه إلى الرجل الذي سأله
وظائف وأوراد بالتزهد في الدنيا وخص بالذكر جانب النساء والجاه وحبهما وكل ما يثير
الشهوات ، والرضا بقدر الله بالشكر إن كنت عنه راضيا وبالصبر إن كان شرا ، وبمحبة
الله التي تجلب الخير وأساس لكل نور يقذفه الله في قلب المؤمن وكل كرامة يجريها
على يديه . فهو هنا قد نهى عن منكر وأمر بمعروف أي استنكر على السائل أن يوظف له
وظائفا وأورادا لأنه ليس برسول بأن يلزمه بواجبات مبرزا له الطريق الصحيح الذي يجب
أن يسلكه وكل ما وصاه به له أصل في كتاب الله وسنة نبيه . وقد عمل الشيخ عبد السلام
على تطبيق مبدأ النهي عن المنكر والأمر بالمعروف في حياته حتى أودى بها عندما قام
إلى الدعي ابن أبي الطواجن ينهاه عن بدعته في الدين بالحجة والبرهان وهذا ليس
ببعيد عن هذا الجيل الذي عرف بالصلاح والإصلاح وهو الذي عرف مستوى علميا ومعرفيا
متفوقا .
إذن هذا هو الشيخ عبد السلام بن مشيش الرجل الصالح
المصلح الذي نهج لنفسه طريق توحيد الله وتخلقه بأخلاق الزهد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في وسط راق متحضر صنع أمجاد الأمة الإسلامية في غربها.رحمه الله
وأكرم مثواه .
1)
مجلة المليحة العدد الأول سنة
1997 مقال للدكتور جعفر بن الحاج السلمي تحت عنوان البحرية الإدريسية ومرسى
العرائش ص 34
2)
أستاذ التعليم العالي بجامعة عبد المالك
السعدي كلية الآداب مرتيل
3)
نصوص جديدة ودراسات في تاريخ الغرب
الإسلامي لمحمد الشريف مجموعة البحث في تاريخ المغرب الأندلسي جامعة عبد المالك
السعدي مطبعة الحداد يوسف إخوان تطوان الطبعة الأولى سنة 1996 . ص: 14
4)
حصن السلام بين أولاد مولاي عبد السلام
للطاهر اللهيوي ط / 1 سنة 1398 – 1978 دار الثقافة ص : 301 فما فوق
5)
نصوص جديدة ودراسات في تاريخ الغرب
الإسلامي مرجع سابق ص :12
6)
تاريخ المغرب لمحمد بن عبد السلام ابن
عبود ص 147 : الجزء الأول
7)
القطب الشهيد سيدي عبد السلام بن بشيش
للدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر صدر سنة 1394 / 1974 ص : 28
8)
القطب الشهيد سيدي عبد السلام بن
بشيش مرجع سابق ص :58 .
9)
الفلسفة الإلهية عند محمد بن
تومرت تأليف الدكتور عبد الحميد درويش النساج مكتبة الثقافة
الدينية ط 1 القاهرة سنة 2010 ص 320
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق