الاثنين، 4 سبتمبر 2017

عناية أهل الهبط بالقرآن الكريم


    بقلم : عبد الحميد بريري

تعتبر بلاد الهبط من اولى المناطق المغربية اهتماما بالقرآن الكريم حفظا ورسما . وذلك ما يِؤكده الماضي والحاضر ، إذ تحتل المنطقة المراتب الأولى من حيث الحفاظ والطلبة وعدد المساجد لذلك وتضامن السكان فيما بينهم لتوفير الأكل ، لكل وافد على بلادهم وقراهم لحفظ القرآن والمتون وتعلم العلوم الشرعية ، أو ما يسمى لديهم " المعروف" . والعجيب في الأمر أن الهبط كان من المناطق المغربية الأكثر عرضة للتنصير من طرف الكنيسة الكاثوليكية في الزمن الذي كانت حروب الإسبان "الإستردادية" في الأندلس على أشدها وفي توهجها ، تحقق نجاحات تلوى النجاحات بسبب التطهير العرقي لكل من يظهر عليه مظهر من مظاهر الإسلام . كان البرتغال يتكلف بالمهمة في المغرب ، بعد قامت الكنيسة بتوزيع الأدوار بين الدولتين الإيبريتين ، والقيام بحملة شرسة لها طابع ديني لتحقيق رغبة الكنيسة بإرجاع "أرض الأجداد المسيحيين" كما كانوا يدعون ، وبجعل العرائش ،إحدى حواضر الهبط ، قاعدة للصليب لنشر العقيدة المسيحية في مختلف مناطق المغرب ، ولأن لا قضاء على الإسلام في الأندلس دون القضاء عليه في بلاد الذين أدخلوه إليها . لكن الله سبحانه وتعالى أبى الا ان يبقى دين الحق وأن يحفظ قول الحق في المغرب كله وفي هذه المنطقة خاصة التي كانت ثغرا في مواجهة المسيحية . وذلك وجه من أوجه معجزات حفظ القرآن الكريم وهذا الدين في هذا البلد .
وهنا سأحاول إبراز مظهرين من هذه العناية سجلها التاريخ المغربي في هذه الربوع الحبيبة من وطننا العزيز.

لوحة تعبر عن حملات الجيوش الصليبية في معارك الاسترداد

المظهر الأول :
قصة لرجل تواترتها الرواية الشفاهية ، يسمى الطاهر التسولي الذي كان يتباهى بحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب وبرسمه وضبطه ووقفه ويدعي أن لا أحد يضاهيه في ذلك أو "يركزه" أي يعجزه ، وأنه "قشقاش" أي بارع في استظهاره من أول حزبه إلى آخره . فقام في يوم الخميس من ايام سوق يقام في قبيلة بني عروس بكتابة سورة الإنسان حفظا ورسما بخط مغربي بارع على لوح ونمقه وزينه كعادة الطلبة عند ختم القرآن ، وعلقه بباب السوق قصد التباهي والتحدي بأن يستطيع احد من حفاظ كتاب الله أن يعثر له عن الخطأ . لكن ستفاجئه فتاة ، تحفظ القرآن الكريم بعد مرورها أمام اللوح وتقرأه فتجد ، ما حرص الطاهر على عدم الوقوع فيه ، خطأ في الضبط ألا وهو إغفال الطاهر نقط الشين الثلاث في كلمة امشاج في الأية 2 من السورة ، فقامت الطفلة بدق ثلاث مسامير فوق الشين بمثابة نقط ، وحتى يمر الطاهر ويتذكر الخطأ تذكيرا . كم كانت صدمة الطاهر فيما رأى . فسارع إلى وضع ثلاث أحجار في برنس جلبابه ، وكلما مر عليه أحد قال له : لما فعلت هذا قال : إنها نقط شين أمشاج.

المظهر الثاني :
هو احتفالية طلبة قبيلة الخلط وبتمويل من سكان مدينة العرائش بمناسبة عاشوراء ، حيث يحكي أجنبي يقال له أوجين أوبين زار المغرب وسجل ما رأى من عادات المغاربة كان من جملة ما لاحظه هذا الإحتفال الشيق الذي أعجبه وإلى حدود الستينات من القرن الماضي بقي هذا التقليد من قبل أن يندثر نهائيا. يحكي هذا الأجنبي سنة 1902 أنه وجد طلبة حفظ القرآن لقبيلة الخلط يقيمون مهرجانا ، يحتفلون فيه بإحدى أعيادهم الدينية ، يرتلون ويقرأون وقد أقاموا خياما على طول الجرف البحري الذي يسمى اليوم الشرفة الأطلسية ، يجمعون التبرعات والهدايا من آهالي المدينة ويقيمون بها موائد للأكل وينتقلون على نغمات الموسيقى بين الخيام . وقد وصل عددهم إلى 500 فرد .


ينتمي الطاهر التسولي الى قبيلة " تسول " التي تنتمي الى اقليم تازة وهي الى اليوم تنافس منطقة الهبط في تحفيظ كتاب الله رسما وضبطا ووقفا . وهذا الشخص عندما قدم الى هنا لحفظ القرآن  ( مخنش)، إنما أراد على ما يبدو إظهار مدى اهتمام أهل قبيلته أو شخصه بحفظ القرآن الكريم أكثر من أهل الهبط الذي وصل صيتهم في ذلك كل أرجاء المغرب  ، خاصة وقد بلغوا شأوا فيه حتى ظهر منهم من وضع وقف القرآن الا وهو أبو جمعة السماتي الهبطي الذي يفتخر المغرب به وبإنجازه الفريد الذي يعده العلماء المختصين في هذا الميدان من العوامل التي ساعدت على تحفيظ كتاب الله لعدد مهم من افراد الشعب المغربي مقارنة مع باقي شعوب الأمة الإسلامية . الطاهر بتشدده هذا – وصى عند موته أن يضع على قبره الشوك حتى لا يتخطاه كل من لا يحفظ القرآن بكامله وبإتقان وباصطلاح طلبة حفاظ كتاب الله "ثمايني"  -  ظن أن في قبيلة بني عروس ليس من حفاظها وهو البارع في الحفظ ، قادر على أن يعجزه في هذا المضمار وأنه يتحدى كل طلبة الهبط أن يبرزوا له الخطأ لكن في التالي يتفاجأ باصغر منه ومن جنس بشري غيره : أنثى ، "تركزه" وتبرز له الخطأ . يعترف بالقصور ويغفل كتابة حروف الشين ويعمل على  معاقبة نفسه للتذكر مرة أخرى ويضع احجار في برنس جلبابه لكي لا ينسى مرة أخرى ويزداد تذكره لذلك كلما مر عليه سائل عن فعله ذلك .
هذا وإن دل على شيء فإنما يدل على أن سكان الهبط كانوا على عناية بكتاب الله وانشغالهم به : ذكرهم وأنثاهم ، كبيرهم وصغيرهم فلا مجال في هذا الميدان التشكيك في ذلك وإنما التسليم بذلك وإن كان الطاهر قد استسلم وهو الذي يتباهى بحفظ القرآن ويتحدى بذلك وإن كان خطأه ناتج عن طبيعته البشرية التي قد تغفل وسبحان الله الذي" لا تاخذه سنة ولا نوم" . وهذا التشدد في حفظ القرآن عشناه بين طلبة القرآن فلا يعترفون بحفظ كتاب الله إلا لمن يتقنه رسما وضبطا أما غير ذلك فلا يعتبر إلا " ثمايني " . وكم كان هذا الإسم  الأخير  يقلق ويزعج الحفاظ أن يسمعوه من أحد إذا قصدوا به حتى أصبح بينهم سب وقذف . وللتمييز بين الحافظ المتقن وغيره أنشأ حفاظ مدينة العرائش مثلا ، في بداية عهد الإستقلال  مِؤسسة تعنى بالطلبة الحاملين لكتاب وتبني مطالبهم  وحماية هذه الصفة من كل دخيل يدعي حفظ القرآن وهو لا يحفظه رسما وضبطا وتسليم بعد ذلك اعترافات وشهادات على ذلك لممارسة أي نشاط يرتكز على حفظ القرآن كالإمامة بالمساجد وغيرها . سميت منظمة حفظة القرآن وكان والدي - رحمة الله عليه وعلى جميع أموات المسلمين – من مِؤسيسيها  .
المظهر الثاني هو الذي شاهده الأجنبي المذكور عن طلبة الخلط إحدى قبائل الهبط العريقة وكيف جاء عدد مهم من حفظته ال500 إلى مدينة العرائش ، وهو عدد يجب الوقوف عنده لما له من دلالة عميقة على اعتناء أهل الهبط بتحفيظ كتاب الله والإهتمام الذي يعطونه لأهل القرآن  وخاصة من سكان مدينة العرائش . فيجمعون لهم الأموال ويقدمون لهم الهدايا باحتفالهم بعيد وهو بالتحديد ذكرى عاشوراء . فاحتفالهم هذا يعني أن هذه الفئة من المجتمع لها رمزيتها الروحية والدينية ولها المكانة المهمة وأن عدد 500 طالب الذين حضروا من قبيلة الخلط له عدة دلالات . الأول أن حفظ القرآن كانت له عناية خاصة لدى سكان الهبط . الثاني إن كان عدد قبيلة  هبطية واحدة من الطلبة كانت حاضرة في هذا الحفل فكم يكون عدد أفراد القبيلة الذين يحفظون القرآن إذا أضفنا إليه الغائبين ؟ وكم هو بعد حفظة القرآن في المنطقة الهبطية كلها في وقت كانت الكثافة السكانية أقل بكثير مما عليه اليوم بسبب عدة عوامل ؟ الثالث سخاء وجود المغاربة في العرائش مع أهل القرآن بمشاركتهم هذا المهرجان  بأموالهم وبالهدايا لهم.

في هذا المكان المعروف حاليا بالشرفة الأطلسية كان طلبة حفظ القرآن من قبيلة الخلط يقيمون خيامهم احتفالا بمهرجانهم الذي يرتلون فيه القرآن الكريم و يجمعون التبرعات والهدايا من أهالي المدينة ويقيمون موائد الطعام على نغمات الموسيقى التراثية.

أمور كلها تثبت ما نقول بلإضافة إلى التضامن المطلق مع كل طالب حل في قرية من قرى الهبط إلا ولقي الرعاية والإهتمام من طرف سكانه بتوفير الأكل بالتناوب أو مايسمى ب "النوبة " وبدعوتهم لحفلاتهم وأعراسهم وتخصيص  أفضل الأماكن لهم . وهذا رغم فقر الهبطيين الذين يتواجدون في أغلبهم في مناطق نائية وجبلية وعرة وأرض فقيرة المواد العضوية الأساسية في كل إنتاج زراعي . ولكن في سبيل كتاب الله وتحفيظه يهون ذلك لديهم ويتغلبون على الحاجة وقلة ذات اليد .
كان حفظ القرآن من انشغالات سكان الهبط  رغم الظروف التي عاشوها ، كانت اجتماعية أو طبيعية أو جهادية ، حتى اصبحت بعض الأسر تتباهى بعدد توفرها على الحفاظ ، ويكفي المظهران اللذان ذكرناهما لنبرز ذلك . وبروز مصطلحات خاصة بهذا المجال واستعمالها إلى اليوم لدليل كذلك على  رسوخ ثقافة تستمد جذورها التاريخية لقرون من الزمن مضت . ككلمة " المعمرة " تعني المكان أو الكتاب الملحق بالمسجد لتحفيظ كتاب الله . وكلمة "النوبة " تلك العملية التضامنية بين سكان القرية لتوفير الأكل للطلبة حسب عددهم كل يوم حيث يتكلف كل بيت أوبيتين بذلك . و" المحضرة" الذي يطلق على كل من هو في المرحلة الحفظ الأولي . و "المخنش  " الطالب القادم من قبيلة أخرى لتكرار الحفظ بعدما يكون قد حفظه في قريته أو في أخرى . وكلمة " السلكة " التي تعني الستين حزب الموجودة بين دفتي المصحف ، وعند ختمها أي نهايتها ينظم للطالب حفلة تسمى في الثقافة الهبطية  "البقرة الكبيرة" أما " البقرة الصغيرة " يعنى بها حفظ الطالب للنصف منها أي ثلاثون حزب .
إذن هذه أبرز المصطلحات التي عرف بها مجال حفظ القرآن الكريم في منطقة الهبط لتأكيد المظهر الأول والثاني للخروج بنتيجة مفادها أن سكان الهبط ممن يدخلون في قوله تعالى حول حفظ القرآن وعدم تحريفه كباقي الكتب السماوية السابقة : "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".
فالشرف الشرف أن يكون لسكان الهبط هذه المشاركة والعناية بحفظ القرآن الكريم .
والله ولي التوفيق .

المراجع
1- قراءة في مشاهد من رحلة أوجين أوبان في كتابه "مغرب اليوم " صدر سنة 1904  لمحمد حجي منشور في مجلة النهضة والتراكم   " دراسات في تاريخ المغرب" سلسلة المعرفة التاريخية طبعة 1986
 2 -روايات شفهية لحفظة القرآن الكريم من منطقة الهبط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق