الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

الحرم العلمي في تاريخ المغرب

جبل العلم حيث ضريح الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش

    بقلم : عبد الحميد بريري

الحرم العلمي يشتمل على أضرحة الشرفاء العلميين المنتسبين إلى أبو بكر،  أحد أحفاد مزوار المدفون بحجر النسر بقبيلة سماتة  وحسب التقسيم الترابي جماعة زعرورة ، و أبرزهم ضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش في قمة جبل العلم.
الحرم العلمي كانت وراء نشأته ظروف تاريخية ، لتحقيق أهداف الشرفاء العلميين الذين عانوا من الاضطهاد السياسي من طرف مناوئيهم ، وأشهرهم موسى بن أبي العافية المكناسي عامل العبديين بالمغرب الأقصى.
لعب هذا المكان أدوارا اجتماعية في حماية كل محتم به وكل ملتجئ إليه ، وفي نفس الوقت حماية الشرفاء عامة من تداعيات أي صراع يحدث فيما بعد فضلا عن الاستفادة من موارد ترابه رعيا وزراعة . وهذا ما سنثبته من نسخة ظهير (1) عثر على أصله  الأستاذ علي الريسوني نقيب الشرفاء الريسونيين يرجع إلى السلطان المولى عبد العزيز العلوي بتاريخ 23 صفر الخير سنة 1317 يقر حدود الحرم والغرض منه ؛ بناء على ظهير يرجع إلى العهد السعدي الثاني وبالضبط 01 شعبان سنة 1050 هجرية (2).

ما المقصود بالحرم ؟
الحرم في المغرب هو حيز مكاني ، يشتمل على قبر أو قبور ، له حرمته يستمدها من مدفونيه ، وقد عرفه صاحب كتاب مؤسسة الحرم في تاريخ المغرب بأنه " ضريح الولي والمناطق المحيطة به " ، كما يستند هذا الكاتب إلى نصوص دينية ليعطيه المشروعية الدينية لما له من مقصد اجتماعي ألا وهو حماية المقهورين من الظلم الاجتماعي و السياسي أملا في النجاة وظهور الحقيقة خاصة إن كان مظلوما ، ووقف أيضا على خمسة من الحرم في المغرب هي : الحرم الإدريسي بفاس ، الحرم العلمي بجبل العلم ( إقليم العرائش ) ، الحرم الوزاني بوزان ، الحرم الفاسي بعدوة الأندلس بفاس ، الحرم الناصري بدرعة ( إقليم زاكورة ) (3).       

حدود الحرم العلمي :
يمتد الحرم العلمي على مساحة شاسعة وحسب الظهير الذي سنعتمده ، يصل إلى عدة كيلومترات مربعة ويشمل تراب قبائل بني عروس وسماتة (جماعات زعرورة بني عروس تازروت عياشة ) حيث توجد مدافن الشرفاء العلميين وقبائل آل سريف وبني يسف وبني ليث وبني يدر، وكذلك المجال الحيوي للشرفاء العلميين ومدافن أبناء عمومتهم من الشرفاء الذين لجؤوا إلى هذا الحرم في فترات لاحقة بعد أن لجأ إليها الأدارسة الأوائل الفارين من الاضطهاد الشهير خلال القرن الرابع الهجري وكان أقدمهم مزوار بن علي حيدرة.
لكن في عهد الحماية الاسبانية ستتقلص هذه المساحة ، ويتحدد دور الحرم العلمي في استغلال أرضه في الفلاحة وغاباته من طرف الشرفاء ؛ بترك المقصد الاجتماعي الذي أقرته الظهائر السلطانية من قبل، منه  النسخة التي سنعتمدها في هذا الموضوع حيث جاء في فقرته الأولى بعد الحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وخاتم كبير يحمله ، يشهد صاحب الظهير على إمضائه حيث يصرح أن الرسم الجديد ، يتضمن ما جاء في الرسم القديم الذي احتج به الشرفاء العلميين أهل جبل العلم  والمؤرخ بفاتح شعبان عام ألف وخمسين من الهجرة يبين حدود حرم جدهم المولى عبد السلام بن مشيش وتنطلق من الجهة الجنوبية ب  "سيدي احمد الجباري إلى تسلا إلى اقروش إلى واد الحجر إلى تمزلان إلى الوادي الفاصل بين العنصر والحرشة إلى (...) إلى عقبة بوحمد إلى بحجر إلى الشيخ السيد سيدي حكمون إلى ترية إلى بنشر وهبط إلى ( ...) الفاصلة بين عين خنزيرة واغلا وهبط إلى وادي ( ...) وطلع قواما إلى جدار المسجد إلى ركبة سيدي هاشم إلى الولي الصالح سيدي إمام ثم هبط إلى وادي بوزيتون إلى الدشر بوحصوص إلى دار الرهب إلى ( ...) إلى دار أخريف إلى ( ...) إلى واد ( ...) إلى غدير الملقة وطلع قواما إلى سوق الثلاثاء إلى ( ...) وجاز إلى صف الدير إلى دار الشريف إلى جبل انازول وصار قواما إلى السلخة إلى ظهر الشطب إلى واد الكبرالى عقبة أخوف إلى واد الزوية قرب سيدي عبد الله الغزواني وهبط مع الوادي المذكور إلى مجاز الجرف إلى مجاز الركن وصار مع الوادي إلى وادي افطيط إلى أسفل بوحصيم إلى خندق احمار إلى المقايل إلى أغدير البغلة وصار قواما مع المحج إلى المقاتل الى الشريفة السيدة زهرة وطلع قواما إلى خندق كسكسوا وجاز مع شفير الجبل العارض فوق الصف إلى سيدي بمغالس إلى ممر قبانش إلى دلم بوشنفر وصار قواما ( ...) شفراو وصار قواما إلى ظهر ( ... ) وطلع قواما إلى صف الغراب إلى أعلا الجبل العارض فوق دار  القرمود وانحدر قواما إلى مولاي ادريس بين مدشر اركان والهوتة وهبط قواما إلى السانية والوادي الكبير إلى سيدي احمد الجبار... " ، هذا ما جاء به الظهير السلطاني من حيث حدود الحرم .


نسخة من مخطوط الظهير

وفيما يظهر أن بعض الأماكن لا زالت تحمل نفس الاسم ، يساعدنا على تحديد هذه الحدود نسبيا ومعرفة القبائل التي تمر منها ، وبالتالي معرفة الحرم ومدى شساعته على باقي الحرم المغربية . فعندما نذكر مثلا سيدي احمد الجباري تدخل قبيلة آل سريف كنقطة انطلاق في اتجاه  تحديد أرض الحرم ، وبذكر تمزلان والعنصر والحرشة وعين خنزيرة على سبيل المثال نجد قبيلة بني يسف كجزء لا يتجزأ من الحرم العلمي . فالقبيلة الأخيرة  تحد الجهة الجنوبية من الحرم . أما من الجهة الشرقية فنجد قبيلة بني ليث بذكر موقعين هما دار أخريف واحكيمش . ومن الجهة الشمالية نجد مواقع لقبيلة بني يدر، كوادي الزاوية ومجاز الجرف لتدخل الحدود في قبيلتي الحرم : سماتة وبني عروس  من جهتها الغربية حيث فرقة العزابة وفرقة بني ومراس  من بني عروس  بمواقع : خندق احمار و الشريفة لالة زهرة وممر قبانش ، واعلا جبل دار قرمود ومولاي ادريس مابين مدشر اركان والهوتة من سماتة كجهة غربية من حدود الحرم لتنتهي الحدود عند نقطة الانطلاق سيدي احمد الجباري.
وداخل هذه الحدود ، نجد أضرحة الشرفاء العلميين وأبناء عمومتهم كالعمرانيين ، الذين قد يكونوا احتموا بهذا المكان بسبب ظروف تاريخية ألجأتهم إلى هناك حسبما تحكي بعض الروايات الشفاهية بشكل متواتر. وهو مجال ترابي  يغلب عليه التضاريس الجبلية الصعبة الولوج إليها  ويوجد بها أعلى قمة بالجهة الغربية من جبال الريف الذي هو جبل بوهاشم . وتغطيه الغابات في أغلب ترابه إلا من بعض الأراضي الزراعية هنا وهناك في السفوح الجبلية . ويتبع الحرم في جل ترابه إداريا إلى إقليم العرائش ، بما فيهما قبيلتيه المركزيتين سماتة وبني عروس والتي يعتبر سكان هذه الأخيرة السكان الأصليين البرابرة هم المؤسسين الحقيقيين لعاصمة الإقليم : العرائش وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي واتخذوها عاصمة لإمارتهم ومنطلق لعملياتهم الجهادية البحرية . أما فيما تبقى من تراب الحرم يوجد في قبيلتي بني ليث وبني يدر، تابعا لإقليم تطوان .
المساحة الترابية للحرم هذه ستتقلص بشكل كبير بفعل سلطات الحماية وأصبحت تحيط بضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش . وتحولت من الهدف التي أنشأت من أجله وهو الاحتماء به كما جاء في الظهير إلى استغلال موارده الطبيعية من الغابات بالحطب و الرعي  وغير ذلك والزراعة في الأراضي الصالحة لذلك أي جعل الحرم العلمي مكان نفعي للشرفاء العلميين تاركين دوره الاجتماعي الذي خصص له(4).

الهدف من وراء إنشاء الحرم ومدى تحقيقه :
أنشأ الحرم العلمي لتحقيق غرض اجتماعي : هو إيجاد الحماية لكل محتم به مضطهد  ، وهذا ما تنص عليه الفقرة الثانية من الظهير السلطاني : " ... وأقررنا العمل به على ما كان عينه وأبقينا ما بداخل تلك الحدود حرما آمنا لمن أمه أو استجار به  فلا سبيل إلى من يريد انتهاك حرمته أو يرتكب ما يؤدن بعدم اعتبار مزيته فإن المستجير به مجار والحال به مامون  من الأغيار إمضاء وإقرارا تامين شاملين عامين فنأمر الواقف عليه من عمالنا وسائر ولاة أوامرنا الشريفة أن يعرفوا ذلك ويجروا العمل على مقتضاه ويقفوا عند خيره وختمه والسلام عبد ربه امرنا المعتز بالله 23 صفر الخير 1317  ".
 النص واضح وصريح في تحديد الدور الاجتماعي والديني للحرم .  وإصداره من طرف السلطة العليا  بالبلاد  هو تكريس لدور الحرم ، منذ الدولة السعدية ، الذي يستمد مشروعيته الدينية والاجتماعية  من القرآن والسنة والمذاهب الفقهية  ومن العرف حيث يقول أحد الباحثين من المغرب في قراءته لكتاب  "مؤسسة الحرم في تاريخ المغرب" لصاحبه الباحث المغربي محمد العمراني ، أن الحرم بالمغرب له مدلول فقهي وشرعي وديني و" طلب الحماية عندها حق اجتماعي كفله الشرع الإسلامي لكل مسلم مقهور وهذا ما يسمى بالاستحرام أو الاحترام أو اللجوء كما اعتبر المؤلف أن السلطة المخزنية هي من عزز وقوى مؤسسة الحرم وعلى عكس ما يتبادر إلى الذهن كملاجئ للفارين والمجرمين والمغضوب عليهم " بل " عاملا من عوامل التوازن الاجتماعي " وفي إطار " يسمح بإيجاد الحلول السلمية لكثير من الخلافات المستعصية " و "إن فكرة الاستحرام أو اللجوء ... قد ترجع بشكل كبير خلال القرن التاسع عشر" ويستلزم " الوقوف عند مفهوم الزواك باعتباره حرم له طقوسه وأعرافه التي تميزه عن الحرم . لغة  " وهي كلمة أمازيغية تعني " التوسل والتضرع " و "اصطلاحا فهو طلب يقدمه " الطرف الضعيف أو المضطهد إلى الطرف القوي لنجدته وحمايته ومنه نشأ ت الحماية القنصلية التي كانت له أثار خطيرة انتهت بفرض الحماية على الدولة المغربية (5) .
فالحرم من خلال متن الظهير، يظهر أن الغرض من إنشائه ، هو نوع من الرحمة وإعطاء الفرصة لكل ملتجئ إليه سواء كان مظلوما حتى تظهر براءته ، وجانيا حتى يلقى العفو من المجني عليه أو أهله . وهي من الأمور التي تميز بها الشرع الحكيم على باقي الشرائع الوضعية ، وقيمة مضافة من قيم الثقافة الإسلامية . وفي نفس الوقت تكريس لحرمة المكان وحرمة أهله الأحياء منهم والأموات منذ لجوء أجدادهم إليه  ، بعدما عرفوا بدورهم ظلم موسى بن أبي العافية المكناسي عامل العبيديين بالمغرب الأقصى حكام المغرب الأوسط  في القرن الرابع الهجري.
وقد ذكر لنا التاريخ نماذج من هؤلاء المحتمين بالحرم العلمي وعلى رأسهم  المولى اليزيد عندما كان وليا للعهد للسلطان المولى محمد بن عبد الله العلوي التي لا زالت داره التي بناه في تازروت ليستقر بها خوفا من أبيه وطلبا للعفو (6). أما من جهة لأعيان والوجهاء فكان قائد تطوان أبو عبد الله محمد عمر الوقاش عائذا بضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش بماله وولده من انتقام السلطان الجديد محمد بن عبد الله من سلوك هذا القائد عندما كان وليا للعهد(7). كما احتمى بالحرم أيضا أحد العدول المدعو سي العياشي النميشو، ينتمي إلى أحد مداشر بني عروس : الحارش ، حسب ما يحكي أحد الشرفاء الوهابيين يسكن بقبيلة بني عروس جماعة عياشة مدشر امسانوة فرقة امزورة ، فارا من عقوبة قطع إحدى أطرافه بسبب زور قام به في إحدى الوثائق وذلك في عهد الحماية .
و يحكي لنا الناصري في كتابه عن مدى الاحترام والتقدير لهذا المكان من طرف السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي أبى الهجوم على ابنه اليزيد إلى الحرم العلمي بجيشه  : " ثم إن السلطان بعث إليه شقيقه المولى مسلمة في عسكر وأمره أن ينزل بقربه ويضيق عليه ويمنعه النزول من الحرم ، ثم بعث إليه عسكرا آخر مع القائد العباس البخاري فنزلوا بقرب الحرم من الناحية الأخرى وضيقوا عليه حتى منعوه التصرف بكل حال ، وفي مدة مقامه هنالك أخذ في تأسيس داره وبناء مسجده ولازالت جدرانها قائمة أسفل الجبل إلى الآن ، واستمر المولى اليزيد محصورا هنالك إلى أن بلغه خبر وفاة أبيه رحمه الله فكان من أمره ما نذكره إن شاء الله  ." (8) وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تفعيل قرار حرمة المكان وخصوصيته الدينية واعتراف من السلطان في نفس الوقت بالدور الاجتماعي الذي أنشأ له ، منذ أن توقف ابن أبي موسى العافية على مشارف جبال سماتة محاصرا ومهددا الأدارسة الفارين من مناطق مختلفة من البلاد المغربية ، بسبب استهجان واستنكار سكان المنطقة من البرابرة فعله هذا فأقلع عن ذلك ورجع  (9)
كما شهد الحرم حدث مهم ، وهو اجتماع لقبائل الشمال الغربي للمغرب ترأسه الشريف امحمد بن ريسون  ،لتعبئة المنطقة لمواجهة العدوان البرتغالي على المغرب الذي انتهى بانتصار تاريخي كان وراءه بالأساس توحد هذه القبائل في مكان له حرمته بين سكان المنطقة وراء السلطان السعدي عبد المالك بن مروان.
والله ولي التوفيق                      

(1) نسخة من الظهير تحصلت عليها من طرف الشريف عبد السلام الوهابي.                                               
(2) في عهد السلطان السعدي محمد الشيخ بن زيدان بن المنصور الذهبي
(3) دنيا الوطن " قراءة في كتاب مؤسسة الحرم في تاريخ المغرب " بقلم محمد عبد المومن، تاريخ النشر 10 يونيو 2015.
(4) نسخة من ظهير نشر بالجريدة الرسمية عدد 34 بتاريخ 20 غشت 1948 صحيفة 92 – 10 يصادق على تحديد قطعة غابوية رقم 73 بقبيلة بني عروس مقاطعة لكوس جبل العلم تحصلت عليها من طرف الشريف عبد السلام الوهابي.
(5) دنيا الوطن " قراءة في كتاب مؤسسة الحرم ..." مرجع سابق.
(6) "الاستقصا" الناصري، دار الكتاب 1956 ص : 63 ،6 ، 65 .
(7) نفسه ص : 6
(8) نفسه ص  65 _ خلاف المولى اليزيد مع أبيه حول السياسة الخارجية وهو الأمر الذي أغضب السلطان سيدي محمد بن عبد الله فهم بتأديبه، فاعتصم الأمير بالحرم العلمي و مات السلطان دون ذلك ( يراجع في هذا الشأن الصفحات المذكورة سابقا في الاستقصا )، أما عن بقايا الدار التي بناها المولى اليزيد لا زالت موجودة إلى الآن في الحرم تحت قمة جبل العلم حيث ضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش.
(9) حصن السلام بين يدي أولاد مولاي عبد السلام، الطاهر بن عبد السلام اللهيوي الوهابي العلمي الحسني، دار الثقافة ط / الأولى سنة 1978 ص 281.
( ...) عبارات تعذر تخريجها من المخطوط.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق