الأحد، 3 مايو 2020

ثورة أيديمون ضد الهيمنة الرومانية على المغرب



ثورة أيديمون ضد الهيمنة الرومانية على المغرب خلال العصر القديم

     بقلم: محمد شكيب الفليلاح (الأنجري)

يعد المغرب، أو ما عرف خلال العصر القديم بالمملكة المورية، من المناطق التي استعصى على روما بسط سيطرتها عليها بشكل عسكري مباشر، ولعله من بين المجالات الترابية التي دخلت إلى قائمة المستعمرات الرومانية في فترات تكاد أن تكون متأخرة من تاريخها، مرد ذلك إلى الصعوبات التي واجهتها الاستراتيجية الاستعمارية الآثينية لاستكمال تطويقها لحوض البحر الأبيض المتوسط وتحويله إلى "بحرنا" (MARE NOSTRUM)؛ أي البحر الروماني، لم يكن الشعب الموري المتشبث باستقلاله ولو في طابعه الشكلي، ليرضى بالخضوع للهيمنة الرومانية بسهولة عقب مقتل الملك بطليموس؛ إذ شهدت البلاد المورية قيام حركة ثورية عنيفة هددت بشكل فعلي التواجد الروماني بالمنطقة، تمثلت فيما عرف في تاريخ الهيمنة الرومانية على شمال إفريقيا ب: ثورة أيديمون العبد المعتق من قبل الملك بطليموس بن يوبا الثاني، التي جندت روما لقمعها أفضل الفيالق العسكرية وأقواها، وقادها أمهر ضباط الجيش الروماني، وأكثرهم تمرسا في الحروب والمواقع القتالية الكبرى في تلكم الفترة.


عملة يوبا الثاني

ومصادر معلوماتنا حول هذه الثورة وزعيمها تكاد تكون منعدمة، وحتى ما توفر لدينا من إشارات حولها لا تمكننا من التعرف بدقة على أسبابها الحقيقية والعميقة الداعية لقيامها، ولا عن مراحلها والأطوار التي عرفتها، ويزداد الأمر غموضا حتى عن الشخصية التاريخية التي قادتها ويتعلق الأمر بالمسمى أيديمون. وإذا استثنينا دور الأبحاث الأثرية في إغناء معلوماتنا حول هذه الواقعة التاريخية في العصر القديم بالمغرب، فإننا نجد إلا إشارة واحدة لها في مؤلفات القدامى والتي انفرد بذكرها المؤرخ الأثيني لبلينيوس الشيخ في كتابه التاريخ الطبيعي. إلا أننا على الرغم من ذلك، وبفضل مساهمة الأبحاث الأركيولوجية استطعنا إعناء مصادرنا حول هذه الثورة.
فما الذي نعرفه عن هذا الأخيرة من خلال ما توفر لدينا من المادة المصدرية الكلاسيكية، ومن الأبحاث الأثرية والدراسات الحديثة؟ وهل كانت ثورة أيديمون بالخطورة التي دفعت بنا إلى الاعتقاد والقول بتهديدها لمستقبل التواجد الروماني بالمنطقة؟


خريطة الإمبراطورية الرومانية

ولنبدأ أولا ببعض الملاحظات حول تسمية وشخصية أيديمون، قبل المرور لبسط موضوع ثورته والإشكالات المتعلقة بالتأريخ لها. بالنسبة للتسمية القديمة للعبد الذي عرفت به هذه الشخصية في التاريخ الروماني "أيديمون"، فهي ذات أصول يونانية (δηµων)، ويقابلها في اللغة الآثينية (Verecundus) والتي تعني باللغة العربية "حصيف" أو "محفوظ"؛ أي المحفوظ بالعناية الإلهية والسديد الرأي والمشورة، ولا يكون مخادعا أو يخون بأي وجه من الوجوه أي أصل يوناني أو شرقي.  ودون أن نكون في حاجة إلى الأخذ بعين الاعتبار للوضعية السامية لكل من يوبا الثاني وبطليموس في المجتمع الموري وطبيعتها الربوبية إلى أبعد الحدود والتي من الممكن منها أن يستقي العبد المعتق المنتسب إليهما أهميته أو أهمية اسمه، فإن الأسماء اليونانية للعبيد خالية من أية أهمية عرقية أو إثنية. وإلى جانب هذا، فهذا الاسم لم يكن معروفا بكثرة ولا كان متداولا بشكل ملحوظ في الوسط اليوناني الشرقي، ولا نعرف إلا نموذجين من هذا الاسم حفظته لنا صفحات التاريخ القديم الأول في بوزوليس وورد دون حرف "النون" الأخيرة في الاسم على شاكلة أيديمو (Aedemo)، والثاني في منطقة "نيم" عن شخص عرف باسم: كومينيوس أيديمون (Cominius Aedémon). والراجح أن هذا الاسم أعطي للعبد الملكي قبل تحريره من قبل الملك بطليموس على اعتبار أن هذا الأخير كان متشبعا بالثقافة الرومانية الهلينية وهي الموضة السائدة أنذاك. كما أنه من جانب أخر، ما من شيء يمنعنا من الحكم على أن أيديمون كان من أصول إفريقية؛ ذلك أنه من الصعب أن نتصور أنه استطاع وفي فترة ومدة قصيرة أن يثير حماسة وحفيظة الموريين ضد الرومان بعد اغتيال ملكهم بطليموس، ويقودهم ويرأس جيوشهم ما لم يكن منتسبا إليهم ويعرف لغتهم حق المعرفة، وإلا كيف لهم أن يقبلوا بعبد معتق غريب عنهم أن يتصدر واجهة الثورة ضد روما. من دون شك، أن أيديمون كان شخصية مرموقة في بلاط الملك بطليموس، ومن الراجح أن هذا الأخير عندما استدعي لحضور احتفالات الشعب الروماني في ليون من قبل الإمبراطور كاليكولا، خلال الشهور الأخيرة من سنة  40 للميلاد، فوض إليه صلاحياته كملك على البلاد بهدف خلافته في تدبير شؤونها لحين عودته، ولربما كان بمثابة وزيره الأول أو مستشاره الملكي، حتى يعلن نفسه أو يعلن عنه كمنتقم أو أخذ بثأر الملك المغتال بطليموس ولي نعمته، ويقود حملة كبرى معادية لروما ولرغبتها في الضم النهائي للأراضي المورية لرقعة الإمبراطورية الرومانية، بعد وصول أخبار موت الملك الموريطاني، ويشير طاسيت (TACITE) إلى أن بطليموس في أول أيام حكمه، كان يحيط نفسه بمجموعة من مستشارين ومساعدين من العبيد المعتقين، إلا أنه ليس من الطبيعي القول بأن تأثير أيديمون على الملك بطليموس من عدمه وإعجابه به كان في بداية حكمه، أو في وقت لاحق؛ ذلك أننا لا نعلم متى كان لقاء العبد المعتق أيديمون بالملك، ولا تاريخ إعتاقه له ولا السبب الذي دفعه لإعتاقه.

الملك الموري بطليموس

عملة الملك بطليموس

الإمبراطور الروماني كاليكولا

لا نتوفر اليوم إلا على مصدرين صريحين في تأريخنا لثورة أيديمون، إحداهما في شكله الأدبي، والآخر في شكله المادي الأثري. المصدر الأول؛ يتعلق بنص لبلينيوس الشيخ في كتابه السالف الذكر أعلاه، والمصدر الثاني؛ عبارة عن نقيشة تخليدية ل: "ماركوس فاليريوس سيفيروس" التي تم العثور عليها بالموقع الأثري لمدينة وليلي سنة 1915م، والمؤخة بسنة 54 للميلاد.
ورد عند بلين الأقدم أو بلينيوس الشيخ في كتابه التاريخ الطبيعي، الجزء الخامس في الصفحة 11 ما نصه:" وقد حاربت الجيوش الرومانية لأول مرة تحت قيادة الإمبراطور كلود بموريطانيا، بعد مقتل الملك بطليموس من قبل القيصر كاليكولا، وبادر العبد المعتق أيديمون للثأر له، الذي دون شك تبعه البربر وهرب حتى حدود جبال الأطلس..."
إن الأخبار التي وردت عند صاحب هذا النص حول ثورة أيديمون هي في حقيقة الأمر هزيلة جدا، فلا نعرف من خلاله عن شخصية الثائر أيديمون إلا كونه عبد معتق للملك بطليموس؛ حيث أتبتث الدراسات أن اسمه ورد مقرونا بهذا الوصف في كافة طبعات وترجمات النص الأصلي لكتاب بلينيوس الشيخ "التاريخ الطبيعي" ذلك أنه ورد على شاكلة liberto Aedémon، وما بفيدنا به هذا النص هو إخباره لنا عن حدوث رد فعل ثوري ضد العمل الشنيع الذي أقدم عليه الإمبراطور كاليكولا، بالأضافة لسبب قيام هذه الثورة.  وتجدر الإشارة هنا إلى الخطأ الذي وقع فيه بلينيوس الشيخ بجعله لقتال الجيوش الرومانية ضد أيديمون كأول حرب تخوضها روما على أرض موريطانيا، بينما نجد أن القوات الرومانية سبق لها القتال فوق هذا الأرض ولأكثر من مرة كما تشير إليه الدلائل التاريخية ومن ذلك الهجوم التي نظمه أوكتافيوس على مملكة بوغود المورية سنة 33 ق.م. ولربما قصد أن الجيوش الرومانية تقاتل لأول مرة بموريطانيا تحت قيادة الإمبراطور كلود، على اعتبار أن هذا الأخير تعد هذا الحرب أول حرب له بهذه الأراضي.


الإمبراطور الروماني كلود

وهكذا يبقى نص بلينيوس الشيخ قاصرا عن الإحاطة بكافة ملابسات هذه الثورة، ورغم هزالة المعلومات التي يحملها سواء عن مراحل ثورة أيديمون أو شخصية زعيمها، إلا أنه يبقى مصدر جد هام بهذا الخصوص، ولولاه لما أتيحت لنا فرصة التعرف على هذه الثورة وعن الهدف الذي تراه العقلية الرومانية الذي كان من وراء قيامها. وقبل الانتقال إلى الشاهذ الأثري على هذه الثورة، تجب الإشارة إلى أن المؤرخ ديون كاسيوس كان قد أشار إلى أن الموريين قد شقو عصى الطاعة ضد السلطة الرومانية عام 42م؛ أي بعد تولي الإمبراطور كلاوديوس العرش بسنة، وبما أن ثورة أيديمون تنحصر فترتها الزمنية ما بين 40م حتى 44 م، فإنه من المرجح أن ثورة الموريين التي أشار إليها ديون كاسيوس تدخل ضمن ثورة أيديمون ما دمنا لا نعرف عن أية ثورة أخرى قامت بين الفترة التاريخية المذكورة قامت في غرب موريطانيا.
لقد عززت إلى حد ما الأبحاث الأثرية معلوماتنا حول ثورة أيديمون، وإن كانت المواد التي تم الكشف عنها بهذا الخصوص هي الأخرى هزيلة ولا تركز على هذا الحادثة بشكل دقيق يعطيها أهميتها الحقيقية. وفي هذا الإطار نجد النقيشة التخليدية لماركوس فاليريوس سيفيروس التي تم الكشف عنها بالموقع الأثري لوليلي، وهي قطعة أثرية نحثت حروف نصها على نصب تذكاري من الحجر باللغة الآثينية كهدية من قابيا فيرا زوجة القائد المذكور. جاء في النقيشة ما نصه: "إلى ماركوس فاليريوس سيفيروس، ابن بوستارن من قبيلة غاليريا، العمدة، القاضي، ثاني الحاكمين، الكاهن الأول في مستحقته، قائد الجيوش المساعدة التي انتصبت في وجه أيديمون الذي قهرته الحرب، لقد أقام له مجلس قواد العشرة لمستلحقة وليلي نصبا تذكاريا نظرا لما قام به من أعمال جليلة تجاه جمهورية وليلي ولاطلاعه على خروجه بمأموريته لدى الإمبراطور كلود. جيث نال، أثناء هذه المأمورية، لصالح مواطنيه حق المدينة الرومانية، والحق في عقد قران شرعي (كونوبيوم) مع نساء تيريغرين، وإعفاء من الضرائب ساري المفعول لمدة عشر سنوات، إضافة إلى متاع المواطنين الذي قتلوا أثناء الحرب أو ماتوا دون أن يخلفوا ورثة. وإن زوجته قابيا بيرا، ابنة إيزيلتا، رغبة منها في تكريم ذكرى زوجها العظيم، هي التي دفعت تكاليف هذا النصب وقامت بإهدائه، وتولت إلقاء كلمة الإهداء على نفقتها." والنصب وإن كان لا يذكر الكثير عن ثورة أيديمون، إلا أننا مع ذلك يمكن أن نستنتج من خلاله ما يلي:
1.      إن لفظة أيديمون وردت في نص النقيشة دون التعريف بأصله ولا بوضعه الاجتماعي والإداري؛ إذ لا نجد فيه ذكرا للفظة المعتق كالتي نجدها في نص بيلينيوس الشيخ، ومن ثم تطرح أمامنا إشكالية استنتاج الوضعية الاجتماعية التي تخص شخصية أيديمون في المملكة المورية. وإذا علمنا أن الكتاب الرومان الذين اهتمو بكتابة نصوص النقائش كانو يتوخون الدقة البالغة في كتابة معلوماتهم، وأخذنا من جانب آخر عدم الحسم في قضية منهجية التأريخ عند بلينيوس الشيخ، إذ ذاك جاز لنا أن نقر بما جاء في نص النقيشة حول ايديمون الذي هو خصم لماركوس فاليريوس سيفيروس، وكل ما عدا هذا القول حول الزعيم الثائر يبقى من قبيل الافتراض لاغير.
2.      تشير النقيشة إلى مشاركة سكان وليلي إلبى جانب القوات المساعدة الرومانية التي انتصبت للقضاء على أيديمون؛ إن هذا يدفعنا إلى استنتاج هام مفاده أن ثورة أيديمون لم تكن تحظى بدعم كافة مكونات المجتمع الموري، ويرى أحد الباحثين وهو المؤرخ كوتيلا، أن الاختلاف في الثقافة بين الثائر أيديمون وأهالي وليلي هو السبب الرئيسي في عدم مساندتهم له؛ ذلك أن ثقافة الأول كانت يونانية – رومانية، في حين أن ثقافة الأخرين كانت فينيقية – بونيقية. وإذا أخذنا بهذا التحليل فإن أهالي وليلي كان عليهم الثورة ضد الجيوش الرومانية بما أنها ذات ثقافة مغايرة لثقافتهم. إلا أننا يمكننا القول بأن سبب وقوف أهالي وليلي إلى جانب روما ربما بعود إلى كونهم قد استأنسوا بالحضارة الرومانية وفعلت فيهم سياسة الرومنة فعلها، وبالتالي لم يعد لهم استعداد إلى العودة إلى نمط حياتهم  الأصلية. وهنا نكون بصدد الحديث عن المسخ الذي تعرضت له الثقافة والشخصية المورية ذات الوجه البونيقي الأصل، ومن ثم تكون مناهضة الأهالي بوليلي لأيديمون نابعة من الرغبة في الحفاظ على الوضع الجديد الذي أصبحوا يعيشون في كنفه.
3.      إن هذا النص لا نجد بين سطوره تاريخا معينا يحدد الفترة التي أقيم فيها كنصب تذكاري إلا أننا، وتبعا للهذف الذي نقش لأجله يمكن تأريخه بمنتصف القرن الأول للميلاد إبان ثورة أيديمون، إلا أن المشكل هنا يبرز في هل يمكن اعتبار الضربة التي وجهها ماركوس فاليروس سيفيروس كانت القاضية لثورة أيديمون، وبالتالي يكون هذا النصب أقيم مباشرة بعد سنة 44 للميلاد تاريخ نهاية هذا الثورة، أم أنها كانت معركة واحدة ضمن معارك الحرب بين أيديمون  وروما، وبالتالي يكون تاريخ أأحداث النقيشة محصورا بين 40م و 44م، على أن هناك من الباحثين والدارسين من أرخها بسنة 54 للميلاد، وهي سنة موت الإمبراطور الروماني كلاديوس سيزار أو كلود، مستندين لاعتبارات عدة تبقى قابلة لنقاش ليس المجال هنا لذكرها وبسطها.

نقيشة ماركوس فاليريوس سيفيروس بموقع وليلي الأثري


من خلال هذا يتضح أن نقيشة ماركوس فاليروس سيفيروس هي الأخرى لا تتضمن معلومات دقيقة حول ثورة ايديمون، لكنها على الرغم من ذلك، فتحت الباب أمامنا للتحقيق في معطيات ومسائل تتعلق بهذه الواقعة التاريخية، كان أهمها الدعم اللوجيستيكي التي افتقر إليه الثائر الموري خاصة في الأوساط الحضرية، بالإضافة إلى استنتاجات أخرى سنأتي على ذكرها تفاديا لعنصر التكرار.
وبالإضافة لهاذين العنصر التأريخيين الأدبي والمادي الأثري، زودتنا جهود الباحثين الأركيولوجيين بإضافات واستنتاجات جد مهمة حول هذه الثورة، وفي هذا الصدد نجد الباحث الأثري الإسباني ميكاييل دي طراديل؛ الذي اهتم في نطاق أبحاثه الأركيولوجية بمنطقة الشمال المغربي، ويبصفة خاصة بالموقعين الأثريين لكل من مدينة ثمودة وليكسوس، فمن خلال الاستيبارات التي أجراها في الطبقات الأثرية لهذين الموقعين، تمكن من رصد طبقة من الرماد في الجزء الاستراتيغرافي الذي يعود للنصف الأول من القرن الأول للميلاد، فوجود آثار رماد منتشر على مساحة جد مهمة بالمدينتين يدل على أن الموقعين قد تعرضا لحريق وتخريب كبيرين. وقد ربط الباحث ميكاييل دي طراديل بقايا الحريق بكل من ثمودة وليكسوس بثورة أيديمون، ما دام قد وجد إلى جانب قطع خزف الأريزو نقود ليوبا الثاني وبطليموس بنفس تلكم الطبقة الأثرية. إن هذا التأويل الأركيولوجي يدفعنا إلى القول أن هاتين المدينتين من المرجح أنهما ثارتا ضد عزم التطبيق المباشر للتدخل الروماني في المملكة المورية عقب حادثة مقتل ملكها بطليموس إلى جانب مدن ساحلية أخرى على وجه الخصوص، وهو ما ذهب إليه الباحث أحمد المكناسي. كما تجدر الإشارة إلى أن مدينة طنجي تعرضت لتدمير كلي جواء هذه الثورة. إلا أن ما يلاحظ، خاصة بالنسبة لموقعي ثمودة وليكسوس؛ هو درجة ومدى مساحة المجال التدميري الذي لحق كل موقع على حدة؛ ذلك أن ثمودة هدمت بصفة كلية وتم بناء حصن عسكري روماني فوق أنقاضها، بينما نجد أن مدينة ليكسوس لم يلحقها الدمار إلا في جزء صغير منها، وتابعت جياتها العادية بعد الاحتلال الروماني لها؛ حيث أعيدت الحياة إلى كافة مرافقها كما كانت في السابق.
إن مقارنة مدى انتشار أشكال الدمار في كل من الموقعين يجعلنا نستنتج نسيبا أنه بالنسبة لثمودة التي عرفت تدميرا كليا خلال هذه الفترة، يمكن القول أنها رفضت الاستسلام جملة وتفصيلا لروما عقب مقتل الملك بطليموس، وبالتالي كانت مقاومتها قوية مما جعل الجيوش الرومانية تدكها عن آخرها، وبالمقابل ولموقعها الاستراتيجي المتميز، تقيم بها حصنا دفاعيا لتصبح المدينة ذات طابع عسكري بعدما عرفت ازدهارا في شتى مناحي الحياة خلال الحقبة المورية. وبما أن هذا التدمير يعود لفترة ما بعد مقتل الملك الموري بطليموس، كما سبق وقلنا، فإنه من المرجح مساندة الأهالي بثمودة لثورة أيديمون. أما بالنسبة لليكسوس، فإن ضآلة المجال التدميري الذي يعود لحقبة ثورة معتق الملك بطليموس، يدفعنا إلى القول أن المدينة قد وقفت في وجه الجيوش الرومانية لمدة قصيرة، وبمقاومة محدودة ربما انهارت أمام القوة الهجومية للفيالق الرومانية، وبالتالي سرعان ما رفعت راية الاستسلام. وهو ما يعني قبولها للعيش في ظل الاحتلال الآثيني واستعدادها للتكيف مع الثقافة الجديد التي يحملها، خاصة أن المملكة المورية انفتحت منذ مدة على المؤثرات الرومانية في شتى المجالات، فحافظت المدينة على حياتها العادية، وعرفت ازدهارا كبيرا كما تدل على ذلك الاكتشافات الأثرية التي تعود لهذه الفترة. وقد وردت مدينة ليكسوس كمستعمرة في عهد الإمبراطور كلاوديوس ضمن قائمة المستعمرات الرومانية التي جاء بها بلينيوس الشيخ في كتابه التاريخ الطبيعي، وليس في عهد الإمبراطور كاليكولا كما ذهب إلى ذلك الباحث أحمد المكناسي. ومن ثم يمكننا القول أن أهالي ليكسوس ساندو ثورة أيديمون لفترة من الزمن الراجح أنها كانت قصيرة، ثم انقلبو ضده، ولربما هذا ما يفسر توده أيديمون نحة الشرق فارا من الجيوش الرومانية بعدما سقطت أهم المراكز الدفاعية، وبالتالي لم يعد يحظى بمساندة أهالي موريطانيا البوغودية. من جانب آخر، نجد أن ميكاييل دي طراديل يؤكد على صعوبة نسبة آثار الحريق في كل من ليكسوس وثمودة لأحد طرفي النزاع (الجيش الروماني/الأهالي)، وما يؤكده هو أن الأحداث التي أدت إلى وجود هذا التدمير في هذه الطبقات الاستراتيغرافية تعود إلى ثورة أيديمون.
يتضح إذن أن مصادرنا حول ثورة أيديمون، وإن كانت في شموليتها وكليتها قد مكنتنا من التوسع في الدراسة والبحث حول موضوعها، إلا أنها تبقى مع ذلك دون المستوى المطلوب والذي يؤهلنا للبسط الحديث عنها من خلال مادة مصدرية ومرجعية صلبة وموضوعية إلى حد بعيد؛ فلا النصوص الكلاسيكية مكنتنا من هذا نظرا لضعف مادتها، ولا الأبحاث الأركيولوجية فتحت لنا الفرصة لاستخلاص أحكام قطعية حولها، وكل ما توصلنا إليه عبرها هو عدد من الاستنتاجات تلقى تفاصيلها بحاجة إلى مزيد من الدعم والتأكيد المصدري حتى نقترب بها من المنطقية والموضوعية التي تمكننا من بناء تصور حقيقي حول ثورة أيديمون وكل ملابساتها.
ومع هذا، فإن كل الدراسات التي تعرضت لهذا الثورة تجمع على أنها شكلت خطرا حقيقيا على مستقبل التواجد الروماني بمنطقة موريطانيا (المغرب)، ولولا بروز مجموعة من العوامل على الساحة المورية ساعدت الجيوش الرومانية في مهمتها للقضاء على الثورة، لكانت هذه الأخيرة قد حققت انتصارا وتفوقا على القوة الرومانية، ولحالت دون سيطرتها الفعلية على الأراضي المورية، نظرا لتشتت القوات الرومانية في جبهات صراع متعددة بالشرق، وشمال أوربا. إننا ومن خلال قلة الإشارات المصدرية التاريخية حول ثورة أيديمون، لا يمكن أن نحدد حجم التهديد الفعلي الذي شكلته على التواجد الروماني بشمال إفريقيا ككل وبالمملكة المورية على وجه التخصيص، إلا أننا ومع ذلك، يمكننا أن نقر بهذه الخطورة وحجمها الكبير من خلال المؤشرات التالية:
1.      1. تدل طبيعة الاستعدادات التي سخرتها الإمبراطورية الرومانية بهدف قمع ثورة أيديمون على مدى قوتها؛ ذلك أن روما لم تعتمد فقط على قواتها وحامياتها العسكرية المرابطة في المدن والمستوطنات داخل المملكة المورية، بل إنها اضطرت إلى الاعتماد على قواتها في ولاية البيتك؛ حيث تم استقدام كل من الفرقة الجيمينية العاشرة والفرقة الماسيدوانية الرابعة، هذا بالإضافة إلى القوات المساعدة المرابطة في المملكة والتي تشكلت في الأساس من الأهالي الذين رضخوا لسياسة الرومنة. وقد بلغ مجموع هذه القوات 20.000 مقاتل، مما يدل من جهة وإلى حد ما، على كبر وقوة الجيش الذي يقوده أيديمون، حتى تسخر له روما كل هذه الأعداد من المقاتلين لمجابهته، ومن جهة أخرى رغبة روما في الضم النهائي والمباشر للمملكة المورية
لرقعة سيطرتها السياسية.
2.      إن الفترة الزمنية الطويلة التي قضتها الجيوش الرومانية في صراعها العسكري مع قوات أيديمون من سنة 40 للميلاد إلى حدود سنة 44 للميلاد، وتعاقب أمهر قواد الجيض الروماني على رأس العمليات الحربية الموجهة ضد أيديمون يوحي بمدى صمود قوات هذا الأخير في وجه الاجتياح الروماني.
3.      إن طبيعة وحجم الهبات التي حصل عليها ماركوس فاليريوس سيفيروس والتي استخلصناها من النقيشة السالفة الذكر بوليلي كجزاء من روما على ما قام به في سبيل إلحاق الهزيمة بأيديمون، تدل هي الأخرى على أن هذا القائد قد خاض حربا عنيفة ضد الثائر الموري استحق معها مل تلكم الهبات. وهذا يدل أيضا على أن روما كانت مستعدة لبذل كل ما تستطيعه في سبيل إخماد والقضاء على ثورة أيديمون.
4.      لعل جسامة التدميرات والخراب الذي لحق وتعرضت له العديد من المراكز الحضرية المورية الهامة من قبيل طنجي، ثمودة، ليكسوس وغيرها يدل على العنف الذي طبع ثورة أيديمون سواء من الجانب الموري أو الجانب الروماني، نظرا للاعتماد على الأسلوب الحربي المعروف ب:"الأرض المحروقة"، ما دمنا لا نعرف على وجه التحديد هل التدميرات من فعل الأول أو الثاني حسبما يشير إلى ذلك الباحث ميكاييل دي طراديل.
5.      وتبعا لعادة المؤرخين الآثينيين في التأريخ لمنطقة شمال إفريقيا عامة وللملكة المورية خاصة؛ ذلك أنهم لا يهتمون بهذا المجال الجغرافي وبتدوين أحداثه التاريخية إلا إذا احتك بالعالم الروماني في صراع عسكري قد يكون حاسما ويشكل خطرا على الوجود الروماني ورغبتها في السيطرة على العالم القديم، من قبيل تأريخ سالوست لحرب يوغرطة مثلا، فإن اهتمام بعض الكتاب الآثينيين بذكر حادثة ايديمون ولو عبر إشارات مقتضبة مما وصلنا، ومن يدري لربما هناك كتابات تأريخية تفصيلية لهذه الثورة ضاعت ولن تصلنا، يدل على كونها كانت ردة فعل مورية قوية أثرت بشكل أو بآخر على السياسة التوسعية الرومانية في شمال إفريقيا، ولولا هذا لما تعرض لها الكتاب الرومان.
لكل هذه الاعتبارات، شكلت ثورة أيديمون على ما يبدو تهديدا حقيقيا للتواجد الروماني على الأراضي المورية، ويبدو أن إخماد هذه الثورة كانت الشغل الشاغل للإدارة الرومانية خلال تلك الفترة، ما دامت المملكة المورية تشكل آخر منطقة في حوض المتوسط لم تلحق بعد بشكل مباشر ونهائي بباقي المستعمرات الرومانية.

خريطة المستعمرات الرومانية شمال إفريقيا

وعلى العموم، كل ما يمكننا قوله عن ثورة أيديمون، أنه عقب مقتل الملك الموري بطليموس ثارت ثائرة الموريين ضد رغبة روما لاحتلال أراضيهم تحت قيادة العبد المعتق للملك المقتول؛ الذي وغب في الثأر لولي نعمته حسبما يرى ذلك بيلينيوس الشيخ، الراجح أن هذا الثائر قدة حظي بدعم ضئيل من قبل المراكز الحضرية القديمة بالمملكة المورية؛ الذين في غاليتهم ساندو روما ضده، اليئ الذي يعني أنه قد اعتمد في ثورته بصفة أساسية على قبائل الصحراء والأطلس، بالإضافة إلى قوات الملك بطليموس وبعض الأهالي الرافضين لفقدان بلادهم لاستقلالها الكلي والنهائي، وهو ما يفسر أيضا فرار أيديمون إلى ما وراء جبال الأطلس من الجيوش الرومانية التي لحقته إلى هناك، لتكون بذلك أول مرة تطأ فيها القوات الرومانية هذه البقاع القاحلة؛ حيث تمكنت من القضاء عليه هناك ومن ثائر موري آخر يدعى "سبال"، ولا يعلم لحد الساعة مصير أيديمون بعد انهزام ثورته صد روما. كما أن فرار أيديمون نحو المناطق النائية والبعيدة عن التأثيرات الرومانية يفسر إلى حد ما وبشكل من الأشكال مدى الإقبال الذي أصبح يحظى به العنصر الروماني والثقافة الرومانية في الأوساط الحضرية بالمملكة المورية، وهو ما يفسر نجاح سياسة الرومنة التي طبقتها روما على أهالي المملكة من أجل تحقيق هدفها الاستعماري في موريطانيا بعدما وعت صعوبة المواجهة العسكرية المباشرة مع العنصر البريري. وقد كانت نهاية موجة الاضطراب والثورة هاته سنة 44 للميلاد لتبدأ روما بعد ذلك بتنظيم أمور موريطانيا الرومانية، وكانت أولى إجراءاتها تكريس التقسيم التاريخي للمنطقة بين موريطانية الطنجية وموريطانيا القيصرية.

البيبليوغرافيا:
·       بلينيوس القديم، "التاريخ الطبيعي"، ترجمة مصطفى مولاي رشيد ضمن كتابه"المغرب الأقصى عند الإغريق"، مطبعة النجاح الجديدة، الداراليبيضاء، 1993م.
·       محمد مقدون، "معلمة المغرب"، الجزء الثالث، الرباط، 1987م.
·       مذكرات من الثرات المغربي، الجزء الأولن مطابع الأطلسن الدارالبيضاء، 1988م.
·       مصطفى غطيس،"ثمودة"ن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الطبعة الأولى، تطوان، 1991م.
·       أحمد المكناسي،"مدينة ليكسوس الأثرية"، دار كريماديس للطباعة، تطوان، 1961م.
·       شارل أندريه جوليان، "تاريخ إفريقيا الشمالية"، ترجمة محمد اعزالي والبشير بن اسلامة، الدارلاالتونسية للنشر، الجزء الأول، 1978م.
·       رشيد الناظوري،" المغرب الكبير: العصور القديمة، أسسها التاريخية، الحضارية، والسياسية"، الجزء الأول، النهضة العربية، بيروتن 1981م.
·       Tarradell M. Nuevos datos sobre la guerra de los Romanos contra Aedémon, 1. Congreso Arqueológico del Marruecos Español, Tétouan, 1954.
·       TARRADELL M. Lixus, Imprenta Cremades, Tetouan, 1959.
·       Gascou J. MLicinius Crassus Frugi, légat de Claude en Maurétanie, Mélanges Boyancé, Rome, Collection de l’Ecole Française de Rome, 1974.
·       Euzennat M. Le temple C de Volubilis et les origines de la cité, B.A.M., t. 2, 1957.
·       J. Carcopino, Le Maroc romain, Paris.
·       J. Gascou, « Aedémon », Encyclopédie berbère, vol. 2, 1er décembre 2012.
·       B. LUGAN, Histoire du Maroc, Critérion histoire, Paris, 1992.
·       A. AYACHE, Histoire Ancienne de l’Afrique du Nord, Edition Sociales, Paris, 1964.


صورة شخصية قرب نقيشة ماركوس فاليريوس سيفيروس بالموقع الأثري وليلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق