الثلاثاء، 1 أغسطس 2017

المسجد الأعظم بالعرائش




إطلالة تاريخية مجالية حول البناية التاريخية للمسجد الأعظم بمدينة العرائش
       بقلم : ذ. شكيب الأنجري

ظلت مدينة العراش طيلة فتراتها التاريخية تتعرض لمحاولات السيطرة عليها أو تدميرها، إذ كانت من بين الثغور الساحلية المغربية التي شكلت تهديدا مباشرا وخطيرا على التجارة الأوربية على طول محاور هذه الأخيرة في علاقتها مع إفريقيا جنوب الصحراء[1].فقد نشطت حركة الجهاد البحري بها وبدعم من السلطة المركزية نظرا للمداخيل المهمة التي توفرها لخزينة الدولة للجهة، وللهيبة التي تتركها لدى الأجانب حول قوة ومناعة المملكة المغربية[2]. فمند نهاية القرن الرابع عشر تعرضت مرسى العراش سلسلة من الهجمات البحرية ألحقت أضرار جسيمة لبنياتها المعمارية، وخسائر فادحة في الأرواح وممتلكات. ولكنها على الرغم من ذلك لم تستطع السيطرة على المدينة واحتلالها، أو إيقاف حركة الجهاد البحري للمرسى وشل حركتها[3]. وقد اشتهر السلطان سيدي محمد بن عبد الله بدعمه لأسطول الجهاد البحري المغربي و إشرافه الشخصي على عملياته طيلة السنة[4]. ومن الأساطيل البحرية التجارية الأوربية التي تضررت جراء هذه الحركة الأسطول البحري الفرنسي الذي ذاق ضرعا للمضايقات التي تتعرض لها وحداته البحرية قبالة السواحل المغربية، لذلك قرر البلاط الفرنسي الإعداد منذ سنة 1700م لشن غارات وهجمات بحرية لقنبلة النقاط التي تتمركز سفن الجهاد البحري بها بالثغور الساحلية المغربية ومن جملتها ثغر العراش[5]، الأمر الذي تم وبشكل قوي في يونيو1765، بقيادة الأميرال دوشافولط[6]، وهي العملية التي باءت بالفشل أمام مقاومة حامية العرائش والقبائل المحيطة بها[7]. وقد لحق المدينة جراء هذه القنبلة البحرية أضرار جسيمة على بنيتها المعمارية ، إذ تهدمت الدور والمنازل، وفر أهلها إلى الضواحي[8] .وعلى إثر ذلك قرر السلطان سيدي محمد بن عبد الله التوجه لمدينة العرائش قصد الوقوف على حالها ووضع برنامج لتهيئتها وتجديد تحصيناتها[9]. ويمكن اعتبار أعمال هذا السلطان بثغر العرائش من أضخم ما تم إنجازه في تاريخ المدينة قبل عهد الحماية. فقد بنى بها دار للسكة، السوق الداخلي، مدرسة قرآنية، فندقا للقوافل التجارية، تجديد التحصينات الدفاعية، وأعطى أمره لبناء مسجدها الأعظم وهو الذي عرف بين ساكنة المدينة ولحد اليوم بالجامع الكبير.
بني المسجد المذكور وسط مجموعة من الوحدات السكنية على مساحة مستطيلة الشكل تبلغ حوالي 638.12 متر مربع يحد شمالا بدرب المقصورة و جنوبا بفضاء السوق الصغير و غرب بدرب الجامع و شرقا بزنقة 2 مارس (كاي ريال). بابه الرئيسي الأصلي هو المتواجد بدرب الجامع قبالة الوحدات السكنية لديوان العلوي (الديوان المفتوح). وأصبح في عهد الحماية الإسبانية جهة السوق الصغير[10]. وقد بني بالاعتماد على النمط المعماري الأندلسي الشائع في كبريات المدن الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبرية. وله أربعة أبواب ثانوية مرتبطة بوظائف المسجد الموازية للصلوات الخمس، وهي: باب المقصورة، باب الجنائز، باب مسجد النساء، باب قاعة الوضوء.[11] تتوفر قاعة الصلاة على مجموعة من الأعمدة مربعة الشكل تحمل أقواس هلالية التصميم تشكل دعامات قوية لسقف المسجد المعد بواسطة خشب الأرز. ويتوسط المسجد فناء مكشوف مربع الشكل تصل مساحته إلى 117.74 متر مربع وعند أعلى زاويته القائمة توجد ساعة شمسية رخامية لضبط أوقات الصلاة. كما توجد في الجهة الجنوبية للمسجد وبضبط فوق بابه الرئيسي الحالي ما يعرف ب مقصورة المؤقت التي كانت مقر لمؤقت المسجد الذي كان ممن لهم دراية واسعة بعلم الفلك ومنازل الكواكب، ويذكر أن آخر من شغل هذا المنصب بالمسجد الأعظم هو الفقيه العدل سيدي أحمد بن فضول بن زروق[12]. وللمسجد صومعة تنتصب بالشمال الغربي من تصميمه على مساحة 4.41 متر مربع وهي ليست بصومعته الأصلية، إذ أن الصومعة التي تعود لزمن التأسيس دمرت خلال قنبلة المدينة من قبل الأسطول البحري الإسباني سنة 1860 إبان حرب تطوان[13]. والراجح أنه أعيد بناؤها بعد الحرب إذا ما أخدنا بعين الاعتبار قداسة المساجد لدى المغاربة ومراعاتهم لحرمتها، على الرغم من أن المدينة بقيت مخربة لمدة طويلة جراء القصف الذي تعرضت له[14]، ذلك أن خزينة الدولة المغربية عرفت عجزا رهيبا نتيجة الغرامات مالية التي فرضتها إسبانيا على المراسي المغربية[15]. ومن خلال صورة فوتوغرافية تعود لبداية القرن العشرين أخذت لصومعة المسجد الأعظم[16] تظهر لنا عمارتها البسيطة الخالية من أي شكل من الأشكال الزخرفية التي عرفت بها الصوامع العلوية وهو دليل – بشكل أو بآخر - على محدودية الغلاف المالي الذي خصصه المخزن المغربي لإعادة بنائها إبان الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. وتندرج هندسة هذه البناية الدينية – المسجد الأعظم - ضمن نمط المساجد العلوية الكبرى، وهي من حيث الحجم متوسطة المساحة بالمقارنة مع المساجد العظمى العلوية للمملكة، إلا أنها تتطابق مع حجم المدينة ومركزها التي لا يتعدى إجمالي مساحتها 8 هكتارات. والبناء الأصلي للمسجد على الرغم من بساطته وبعده عن الزخارف المغربية الأندلسية إلى أنه لا يفتقر للرشاقة و الانسجام والتلاحم[17].



لقد كان المسجد الأعظم - إلى جانب كونه فضاء تعبديا - أيضا فضاء تعليميا، إذ احتضن مجموعة من الكراسي العلمية إستوى على متونها فقهاء وشيوخ تصدو لمهمة تلقين العلم النافع لطلبة المدينة و القرى المجاورة من علوم الفقه والشريعة و الحديث  و قواعد اللغة العربية وتفسير القرآن الكريم والحساب وعلم الفلك. وتروي لنا الرواية الشفوية لأحد طلبة الجامع الكبير أنه حصل على شهادة للتخرج من الكراسي العلمية للمسجد تؤهل صاحبها لولوج عالم الدراسة الدينية بجامع القرويين بفاس. وللمسجد الأعظم أوقاف حبسية في شكل عقارات تجارية وسكنية بمدينة العرائش[18]. وأخرى فلاحية بالقرى والمداشر المجاورة. وتذر على المسجد مداخيل مالية مهمة تصرف على مصالح تسييره. وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلا أن المداخيل الكرائية لدكاكين السوق الصغير البالغ عددها 78 حانوت هي وقف على المسجد الأعظم[19]. إن أهمية أوقاف هذا الأخير توحي لنا بقداسته وحرمته وتعظيم شأنه بين الساكنة.
لا نجد في المصادر التاريخية إشارة واضحة لتاريخ بناء المسجد الأعظم بشكل دقيق، إلا أنه من المؤكد بناؤه بعد الزيارة التي قام بها السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى ثغر العرائش بعد قنبلتها من قبل الأسطول الفرنسي في يونيو 1765[20]، و التي إستغرقت شهرا كاملا، وهي المدة الزمنية التي توحي بأهمية المنشآت المعمارية التي أمر بها السلطان في شتى المجالات والميادين بثغر العرائش. ومن خلال نقيشة تخليدية تحبيسية توجد أعلى باب مدخل البناية التاريخية ذات الوظيفة الاقتصادية المعروفة ب: "فندق زلجو" [21] التي تشير إلى بناء هذا الأخير سنة1770م وجاء فيها أيضا أمر السلطان بتحبيس منافعه و مستفاده على المسجد الأعظم، الشيء الذي يجعلنا إلى حد ما نحصر تاريخ تأسيس الجامع الكبير موضوع البحث بين سنتي 1765 م و 1770. وإلى جانب المسجد الأعظم عند الجهة اليمنى لمدخله الرئيسي لجهة السوق الصغير تم تأسيس مدرسة دينية ملحقة به ذات باب ذي بنية معمارية مستندة إلى النمط المعماري الأوربي الكلاسيكي، تشير نقيشة حجرية تعلو مدخلها إلى سنة تأسيسها وهي 1187 هجرية التاريخ الذي يوافق تقريبا 1773م[22] ، أي بعد الانتهاء من بناء المسجد الأعظم إذا اعتمدنا الطرح والاستنتاج أعلاه.
وعلى العموم، فالمسجد الأعظم بمدينة العرائش يشكل مظهرا من مظاهر اهتمام المخزن المغربي بهذا الثغر وحرصه على العناية به والإكثار من عمرانه، إذ لا نجد المساجد العظمى التي بنيت على مر تاريخ الحكم العلوي للبلاد إلا في الحواضر والمدن المهمة والكبرى،من قبيل مدن فاس،الرباط، تطوان،طنجة،وغيرها.وتجدر الإشارة هنا أيضا إلى أن المسجد الأعظم بالعرائش كان فضاء لقراءة الظهائر السلطانية لتعيين القضاة والولاة والقادة والباشوات. كما كانت تقام به الحفلات الدينية والولائم للفقراء ومساكين المدينة[23].
كانت تلك إطلالة مختصرة تاريخية على واحدة من المنشئات المعمارية الدينية ذات الحضور القوي والبارز في المنظر المورفولوجي العام للنسيج العمراني العتيق، وفي الذاكرة التراثية المشتركة لساكنة مدينة العرائش. وإن كان لنا تحفظ نشاركه مع السيد المحافظ الجهوي للمعالم التاريخية والمواقع الأثرية الأستاذ العربي المصباحي حول طريقة التدخل الأخيرة والأشغال التي عرفها المسجد الأعظم على مستوى تهيئة وصيانة بنيته الإنشائية، والتي كنا نرجوا أن تحترم المعايير التقنية والأكاديمية التي تنظم وتقنن عملية الترميم وصيانة الهياكل والمنشئات العمرانية ذات القيمة التاريخية والأركيولوجية.

ملحق الصور والتصاميم
نقيشة تحبيس فندق زلجو على المسجد الأعظم

النقيشة الحجرية لتاريخ تأسيس المدرسة القرآنية جوار المسجد الأعظم

صورة لصومعة المسجد الأعظم بعد إعادة بنائها بعد سنة 1860م

صورة جوية للمدينة العتيقة بداية الثلاثينات من القرن 20 ويظهر فيها التصميم العام للمسجد الأعظم

تصميم المسجد الأعظم معد من قبل مندوبية السكنى والتعمير وسياسة المدينة



[1]  - إدريس شهبون،العرائش في تاريخ المغرب قبل عهد الحماية، منشورات أكاديمية المملكة، 2014، ص: 105
[2]  - إبراهيم حركات، التاريخ السياسي والاجتماعي للدولة السعدية، مطبعة المعارف، 1996، الدار البيضاء، ص: 276
[3]  - إدريس شهبون،نفسه، ص: 96
[4]  - الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى، أبو خالد أحمد الناصري، الجزء الثامن، ص: 42
[5]  - إدريس شهبون، نفسه، ص: 102
[6]  - إدريس شهبون، الحملة الفرنسية على العرائش (يونيو 1765)، مجلة المليحة، العدد الأول، يوليوز 1997، ص: 38
[7]  - الزياني، البستان الظريف، الطبعة الثانية، دار الفكر، 1992، ص: 153
[8]  - إدريس شهبون، نفسه، 39
[9]  - نفسه.
[10]  - الباب الذي حول للباب الرئيسي للمسجد جهة السوق الصغير كان عبارة عن بويب صغير يعرف بين العامة ب:"البنيقة" يؤدي لمنحدر يفضي لداخل المسجد، وعند منتصف ممره توجد مقصورة المؤقت.
[11]  - أنظر التصميم المرفق للمسجد الأعظم، معد من قبل مندوبية السكنى والتعمير وسياسة المدينة سنة 2007
[12] - الرواية الشفوية لحفدة أسرة بن زروق بمدينة العرائش، وخاصة ابنته السيدة ربيعة أحمد بن زروق.
[13]  -  محمد داوود،تاريخ تطوان، القسم الثاني، المجلد السادس، ص: 131 – 242
[14]  - إدريس شهبون، نفسه، ص: 198
[15]  - محمد داوود، نفسه: 142
[16]  - أنظر الصورة المرفقة
[17]  - عبد اللطيف البودجاي، بحث لنيل شهادة الدراسات العليا بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث تحت عنوان، العرائش دراسة تاريخية و أركيولوجية، باللغة الفرنسية، الرباط، 1989م، ص: 145
[18]  - راجع الحوالة الحبسية للمسجد الأعظم بالعرائش بالخزانة العامة والمحفوظات بتطوان.
[19]  - استطلاع ميداني موثق بأرشيف جمعية مؤسسة القصبة للنهوض بالتراث الثقافي للمدينة العتيقة سيوضع رهن الباحثين بفضاء مركز دعم التراث الثقافي للمدينة العتيقة نهاية سنة 2017م، بالعرائش.
[20]  - إدريس شهبون، مجلة المليحة، نفسه.
[21]  - أنظر صورة النقيشة التحبيسية المرفقة.
[22]  - أنظر صورة النقيشة الحجرية المرفقة لباب المدرسة الدينية جانبه
[23]  -الرواية الشفوية المعاصرة لفترة الثلاثينات من القرن العشرين،(الحاج عبد القادر الغلاب، 94 سنة)








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق