بقلم : محمد عزلي
شكلت مدينة العرائش أهمية تاريخية لدى مختلف القوى
الإمبريالية العالمية عموما والإيبيرية تحديدا، فتكررت محاولات احتلالها عبر حقب
مختلفة من التاريخ الحديث والمعاصر فنجحت المملكة الإسبانية في السيطرة
الفعلية عليها في مناسبتين (1610 إلى 1689) و (1911 إلى 1956).
سابقت السلطات الإسبانية الزمن مباشرة بعد
احتلالهم للمدينة سنة 1911 لتهيئ العرائش كقاعدة عسكرية للمنطقة
الخليفية وعاصمة اقتصادية بوصفها الجزء الوحيد من المغرب النافع الذي اقتلعته
إسبانيا من فم فرنسا، وبالتالي سرعة المرور بالعرائش إلى مصاف أجمل الحواضر
بالعالم، فبدؤوا بتنزيل مشروع التوسعة "Ensanche" خارج أسوار المدينة، ثم أسسوا
نظاما تعليميا إسبانيا بسرعة البرق يعتمد على ازدواجية اللغة والديانة، لتنشئة جيل
جديد متشبع بالقيم الغربية والانتماء إلى الوطن المحتل، كل هذا بقناعة المسيطر
الذي لا نية له أبدا في ترك المستعمرة، بقناعة من سيدخل دون رجعة كما فعلوا بسبتة
ومليلية وباقي الثغور المحتلة، فأخذوا على عاتقهم إرساء دعائم الاقتصاد،
" صناعة، فلاحة، صيد بحري، مبادلات" و تهيئ بنيتها التحتية، "
مطار، سكة حديدية، قناطر وطرق، ميناء كبير.." ثم استقدموا أعظم مهندسيهم
وأكبر مقاولات البناء لتأسيس مجال حضري على أعلى مستوى "سوق نموذجي، مسرح،
قاعات سينمائية، نوادي ترفيهية، كازينوهات، كنائس..." ثم أسست بمنهجية دقيقة
كل ركائز الحياة المدنية والعسكرية "ثكنات، مستشفيات، مدارس، ثانويات ومعاهد،
ومجمعات سكنية حسب الأعراق والإمكانيات والرتب الاجتماعية.." لتتكون
لدينا في النصف الأول من القرن العشرين شرائح اجتماعية جديدة و نمط عيش مجنون
بالاختلاف والغنى والتمازج العجيب بين ما هو محلي أصيل وما هو عصري دخيل.
1923، صورة توضح جانبا من مشروع التوسعة خارج أسوار المدينة في مرحلة جد مبكرة من الاحتلال الإسباني حيث تظهر تجليات المدنية العصرية بما فيها التعليم كمحور أساسي و جوهري (المجموعة المدرسية الإسبانية أعلى يسار الصورة)
في أواسط
القرن الماضي بلغ التطور والتمدن أوجه بمدينة العرائش و بدأ المستعمر يجني قطاف
زرعه، حيث نشأ له جيل جديد متشبع بالثقافة الغربية سواء من المعمرين أنفسهم أم من
السكان الأصليين الذين اندمجوا و لو "بتحفظ" في ركب التنمية والتطور
السريعين، لكن هذا لم يمنع من واقع تواجد معسكرين اجتماعيين أساسيين بالمدينة
"الغربي والمحلي"، لكل منهما طقوسه و تقاليده و ديانته و معتقداته و أماكن
السكن والتجمعات، إلا أنه و في المقابل احترم كل معسكر ثقافة الآخر إلى
حد بعيد، بل و اجتمعوا في مؤسسات موحدة كثيرة كالسوق والملعب والميناء والمستشفى و
جل مرافق الحياة العامة، هذه الخلطة العجيبة ستتجلى حتى بعد الاستقلال حينما رفض
معظم المعمرين العودة إلى إسبانيا و تشبثوا بعيشهم و مكتسباتهم بالمدينة، والأمثلة
واضحة إلى اليوم عندما نسمع عن أسماء أشهر المناطق والأحياء والشوارع والدروب لا تزال تعرف
إلى اليوم بمسمياتها أيام الحماية رغم تشويرها بأسماء جديدة بعد الاستقلال "ديور
كارسيا، ناباس، ليخيرو، ماريستاس، ألطو راديو، البركي، باسيو، بالكون أتلنتيكو،
كواترو كامينو، بلاصا، لايبيكا، أوسطال..." حتى المفردات و دارجة الساكنة
تطبعت بهذا الإرث الإسباني، لدرجة أصبحت مع الزمن علامة فارقة في تصنيف "
ولاد البلاد " أو " العرايشي البورو Puro "
أول مدرسة إسبانية بالعرائش عام 1911 أي نفس سنة الاحتلال
في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية
أصبح المجتمع المدني بالعرائش بشقيه الأجنبي والمحلي أكثر نضجا و تلاحما و قوة،
ليأخذ تدريجيا مكان المؤسسة العسكرية الإسبانية في عملية تسيير المدينة و تنميتها
و تحسين نسق العيش فيها، و لم يكن هذا النضج وحده سببا في هذا التحول
"السلس" بل حتى ظروف الجيش الإسباني نفسه ساعد على ذلك و بقوة، فقد عانت
المؤسسة العسكرية من تبعات حرب الريف والحرب الأهلية ثم الحرب العالمية الثانية،
زد عليه المواجهات والصراعات الداخلية المحلية التي طالما أنهكت مخزونهم المادي والمعنوي،
و هنا الإشارة إلى المقاومة و حرب العصابات و " السيبة " التي لم يجدوا
لها حلا سوى تطبيع السلطة مع القياد والشيوخ والأعيان المحليين خاصة في البوادي،
أما في المدينة فقد أصبحت المؤسسة العسكرية متخوفة من الجيل الجديد الذي تربى على
العلم والثقافة والدراية السياسية إلى حد ما، مما جعلها تتنازل تدريجيا عن بعض
مواقع التسيير الذاتي للمدينة و تتطبع مع النخبة لتتفادى ضررهم المحتمل من جهة و
تجعلهم يدافعون عن مكتسباتهم الشخصية من جهة أخرى، هذه السياسة الجديدة أنتجت لنا
طبقات اجتماعية جديدة لم تعهدها المدينة سابقا.
- أرستقراطية إقطاعية متكونة من معمرين
أجانب و أسر محلية قوية.
- أرستقراطية
صناعية لأول مرة بمدينة العرائش تكونت أساسا من الإسبان.
- طبقة متوسطة تخدم مصالحها و مصالح
الأرستقراطيين و هي أيضا طبقة جديدة.
- ثم بقية الفئات القديمة الكلاسيكية
المعروفة مند القدم "فلاحون، حرفيون، تجار، رعاة، صيادون..." منهم
الميسورين و أغلبهم الفقراء.
غلاف جميل لكتاب أجمل لصاحبه لويس ماريا كازورلا تظهر فيه تجليات التلاقح الثقافي و الاجتماعي و الاقتصادي الذي طبع النسيج السكاني لمدينة العرائش بقسميها المحلي و الأجنبي
شكل استقلال المغرب صدمة عنيفة للإسبان
"المستعمرين منهم والمعمرين" حيث أصبح الحلم سرابا مرة أخرى، فبعد
خروجهم في القرن السابع عشر هاهم مرة أخرى ينسحبون صاغرين من ثغر العرائش الذي شكل
تاريخيا أهمية و أولوية قصوى عبر عنها الملك فيليبي الثاني " Felipe II " بقوله :Sólo Larache vale por todo el África (العرائش لوحدها تساوي كل إفريقيا).
قامت السلطات الإسبانية و نخبة
الإقطاعيين الأغنياء بمجموعة من الإجراءات والتحركات السريعة قبل الانسحاب
العسكري الفعلي، تجلت في عمليات بيع و تفويت و هبات مشروطة للأراضي والملكيات
العامة منها والخاصة، نفس الشيء سيفعله المعمرين المستوطنين الذين امتلكوا شركات
أو عقارات أو محلات تجارية، غير أن هؤلاء الفارين من المجهول الذي ينتظرهم لم
يشكلوا في حقيقة الأمر سوى أقل من ثلث الإسبان الذين قرروا الرحيل بالفعل، أما
البقية فقررت البقاء في أرض العرائش مهما كانت النتائج معتبرين أنفسهم منتمين
إليها و أبنائها الفعليين من جهة، و من جهة أخرى لأن المجهول الذي ينتظرهم
بالمدينة لن يكون أسوء من المجهول الذي ينتظرهم إن قرروا الرحيل لبلد لم يعيشوا
فيه و ليس لهم فيه ضمانات العيش الكريم.
فيما يلي تشكيلة من الصور القديمة التي توثق لهذه المرحلة الهامة من تاريخ مدينة العرائش حيث تقربنا بشكل كبير من الشكل العام للنسيج السكاني و الحالة الاجتماعية و الاقتصادية و السيايسة لمدينة العرائش في النصف الأول للقرن العشرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق