الخميس، 30 مارس 2017

العودة إلى البحر والخروج منه بعد معركة العرائش


بقلم : ذ. عزيز قنجاع    

العودة الى البحر من جديد

وفاة المولى سليمان سنة 1822م ستحمل ابن اخيه المولى عبد الرحمان بن هشام الى السلطة، هذا الأخير مباشرة بعد توليه زمام الحكم سيحاول تغيير التوجه الاستراتيجي للدولة في اتجاه البحر، ستحمل معها المحاولة الكثير من الويلات، ستكون انطلاقتها من العرائش و ستؤثر على تاريخ المغرب المعاصر.
كانت أولى الخطوات التي طبعت بدايات عهد المولى عبد الرحمان بن هشام، محاولته إحياء النشاط البحري، وقال عنه ابن زيدان في الاتحاف: ” كان المغرب على عهده لاتزال له مراكب بحرية تجارية وحربية تمخر العباب ويقتنص رؤساؤها مراكب الدول التي ليس عقد مهادنة مع المغرب ، ولا جواز مرور يبيح لها حرية التجول بمياهه و العبور شواطئه ، وكان له بتلك المراكب ورؤسائها مزيد اعتناء ، وقد اهتم كثيرا بإرجاع القوة البحرية التي اغفلها بل اهملها عمه ابو الربيع…. وردها الى شبابها” فقام بإنشاء أساطيل جديدة كما قام بترميم ما بقي مهملا منها بمراسي المغرب، لم تكن العملية ينظر إليها بعين الرضى من قبل الدول الأوروبية التي ربطت عملية الاعتراف بشرعية سلطة المولى عبد الرحمان بن هشام بتخليه عن أعمال البحر بالمرة. ويذكر عبد الرحمان بن زيدان في موسوعته “اتحاف أعلام الناس” خصوصا في الجزء الخامس منه، معلومات دالة عن تعقد المحادثات المتعلقة بالتوجه البحري الذي أراد أن يدشنه هذا السلطان عقب مجيئه الى السلطة حيث يقول” وحدثني من وثقت بخبره انه لما بويع المولى عبد الرحمان علق بعض الأجناس المجاورين للإيالة المغربية الاعتراف بسلطته على إبطال القوة البحرية فامتنع”. إن إصرار المولى عبد الرحمان على توجيه استراتيجياته السياسية نحو البحر ستقنع أخيرا باقي الأطراف حيث يقول نفس المؤرخ في نفس المرجع انه: “بعد مراجعات وقع الاتفاق على بناء أبراج بثغر الرباط “. لم يعر المولى عبد الرحمان بن هشام أية أهمية للتحذيرات الأجنبية بهذا الخصوص ولم يفهم مغزى التحولات الجديدة على مستوى العلاقات الدولية خصوصا بعد مؤتمر فيينا سنة 1815 الذي سمح بمشاورات مكثفة بين الدول الاوروبية قصد توحيد جهودها لكبح القرصنة بالبحر المتوسط، من خلال وضع قوانين ملزمة تنظم عملية الملاحة الدولية. وهو ما عبر عنه المؤرخ خالد الناصري عند انتقاده المبطن لهذا التوجه السياسي للسلطان المولى عبد الرحمان بن هشام الذي لم يع التفاوتات الحاصلة على مستوى وفرة العتاد الحربي البحري الاوروبي و تفوقه التكنولوجي حيث قال: “انه لما أراد إحياء هذه السنة صادف ابان قيام شوكة الفرنج ، ووفور عددهم وأدواتهم البحرية ، وصار الغزو في البحر يثير الخصومة و الدفاع ، والتجادل و النزاع ، ويهيم الضغن بين الدول العلية ودول الأجناس الموالية لها حتى كاد عقد المهادنة ينفصم” بل ان المولى عبد الرحمان بن هشام سيتجاهل كل مقررات المؤتمرات الدولية في هذا الشأن والتي كانت معروفة في الاوساط السياسية والعلمية المغربية، فالناصري يشير اليها صراحة حين يقول محيلا الى مقررات مؤتمر فيينا في خضم نقده لسياسة السلطان عبد الرحمان بن هشام : “وانضم الى ذلك إعلان الدول الكبار من الفرنج مثل الانجليز والفرنسيين بان لا تكون المراكب الا لمن يقوم بضبط قوانين البحر التي يستقيم بها أمره وتحمد معها العاقبة وتدوم بحفظها المودة على مقتضى الشروط”. ويبدو ان اصرار المولى عبد الرحمان بن هشام بإعادة الحيوية للمجال البحري المغربي رغم هذه الحواجز الموضوعية حير المثقفين المعاصرين كذلك، فهذا محمد المنوني في كتابه “مظاهر يقظة المغرب الحديث” يتساءل كذلك عن اسباب هذا التجاهل، بل يقول ان سياسته المندفعة هاته انتهت الى ما ” طالما تمنته الدول الأجنبية من جعل حد نهائي لنشاط الأسطول المغربي” وذلك بعد ان تعرض ميناء العرائش لهجوم منظم من قبل قطعة من الاسطول النمساوي فقام بضرب مرسى العرائش سنة 1245/1829 وعل الرغم من صد العرائشيين للهجوم النمساوي الا ان الامر انتهى بتدخل انجلترا و ضغطها على السلطان لتوقيع معاهدة مجحفة سيتنازل على اثرها السلطان عن الخوض في شؤون البحر وسنستبق الاحداث بالقول ان وقعة العرائش هذه كانت خطورتها تفوق خطورة حرب ايسلي و تطوان، فقد قال بشأنها المؤرخ خالد الناصري بنبرة حزينة فيها الكثير من الغصاصة في كتابه “الاستقصا” ” و اعلم ان هذه الوقعة -أي وقعة العرائش- هي التي كانت سببا في اعراض السلطان المولى عبد الرحمان عن الغزو في البحر والاعتناء بشأنه” وسنعود لتفاصيل هذا الحادث.



معركة العرائش وتوقيع معاهدة “استرياك”: قراءة في النصوص

أ‌-        ظروف المعركة


انتهج المولى عبد الرحمان بن هشام سياسة صارمة اتجاه الدول التي تعبر شواطئ المغرب حيث بات رؤساء البحر المغاربة ” يقتنصون مراكب الدول التي ليس لها عقد مهادنة مع المغرب ” كما قال ابن زيدان، وكذا “الدول التي ليس لها جواز المرور يبيح لها حرية التجول بمياهه وعبور شواطئه ” وفي إحدى تلك الدوريات البحرية أسرت البحرية المغربية مراكب نمساوية، ففي سرده لهذه الحادثة كتب صاحب “الاستقصا” أن البحرية المغربية بقيادة الرئيسان الحاج عبد الرحمان بريطل والحاج بركاش استاقوا المراكب النمساوية “إذ لم يجدوا معها ورقة الباسبورط المعهودة عندهم و عثروا فيها على شيء كثير من الزيت و غيرها و كان بعضها قد جيء به إلى مرسى العدوتين وبعضها إلى مرسى العرائش” ورغم المجهودات الدبلوماسية التي قام بها سفير النمسا إلى طنجة لطلب عقد معاهدة صلح في هذا الشأن فإن طلبه قد تم رفضه بذريعة ” أنه أخذ – أي المركب- في وقت الحرب، فرجع ذلك السفير خائبا ” وذلك حسب الرواية التي أوردها ابن زيدان في إتحافه. رد النمسا لم يتأخر فقد كان سريعا ومباغثا حيث أرسلت هذه الأخيرة مراكب قرصانية للاحتيال على قنص مراكب مغربية ” فصار ذلك المركب القرصاني يتطوف بنواحي مياه المراسي المغربية ” إلى أن رأى منها بمرسى العرائش فحدثته أطماعه بالقبض عليها، ولما قابلوا المرسى انزلوا عددا من الجند بالبر وقصدوا المراكب السلطانية” لا تختلف هذه الرواية التي أخذناها عن ابن زيدان عن تلك التي أوردها الناصري بكثير من التفصيل في كتاب الاستقصا حيث أضاف “فهجم النابريال على العرائش بستة قراصين يوم الأربعاء 3 ذي القعدة سنة 1245 ورمى عليها الكور شيئا كثيرا من الضحى إلى الاصفرار وعمد في أثناء ذلك إلى سبعة قوارب فشحنها بنحو 500 من العسكر ونزلوا إلى البر من جهة الموضع المعروف بالمقصرة ، وتقدموا صفوفا قد انتشب بعضهم في بعض بمخاطيف من حديد لئلا يفروا و مشوا إلى مراكب السلطان التي كانت مرساة بداخل الوادي وهم يقرعون طنابيرهم و يصفرون ومراكبهم التي بالبحر ترمي بالضوبلي مع امتداد الوادي لتمنع من يريد العبور إليهم، فانتهوا إلى المراكب وأوقدوا فيها النيران وقصدوا بذلك أخد ثأرهم فيما انتزع منهم” وقد استمرت هذه العملية العسكرية طيلة النهار ولم يتم صد النمساويين إلا بعد أن انضم أهل الدواوير المجاورة للمعركة حسبما نفهمه من شهادة صاحب الإتحاف الذي قال ” فحال بينهم وبين ذلك أهل البلد والمجاورين لها وأحاطوا بهم قبل وصولهم للمراكب واستأصلوهم قتلا ، وقطعوا رؤوسهم ووجهوا بها إلى الحضرة السلطانية” آما الناصري فيدقق كثيرا في تفاصيل هذه المعركة حيث يضيف “فلم يكن إلا كاد و لا حتى انثال عليهم المسلمون من كل جهة من آهل الساحل وغيرهم، وعبر إليهم أهل العرائش و أحوازها سبحا في الوادي وعلى ظهر الفلك إلى أن خالطوهم وفتكوا فيهم فتكة ، وكان هناك جملة من الحصادة يحصدون الزرع في الفدن فشهدوا الوقعة وأبلوا بلاء حسنا حتى كانوا يحتزون رؤوسهم بمناجلهم” ولا يكتفي الناصري بالرواية المحلية بل ينقل عن مؤرخ إسباني قائلا : ” وقد ذكر مانويل هذه الوقعة وبسطها وقال : إن النابريال قتل منهم ثلاثة وأربعون سوى الأسرى وتركوا مدفعا واحدا وشيئا كثيرا من العدة وأفلت الباقي منهم إلى مراكبهم وذهبوا يلتفتون وراءهم” إن كانت المعركة انتهت بنصر عسكري مغربي فما هي النتائج السياسية التي ترتبت عن هذه المعركة ؟.


ب نتائج المعركة 


لم ترد بالأبحاث الأكاديمية أية قراءة متأنية لهذه المعركة ودراسة لتفاصيلها و نتائجها ولا لبنود معاهدة استرياك التي ترتبت عنها بل إن الكثير من الغموض يلف هذه المعركة حتى بالنسبة للذين حكوا عنها، فأمام نصر عسكري غير مسبوق على إمبراطورية النمسا نجد أن الصيغ التعبيرية التي رافقت سرد حيثيات هذه المعركة يكاد يكون إحالة إلى هزيمة نكراء بل كأننا أمام هزيمة كارثية، حتى إن المؤرخ الناصري الذي لا يترك شاذة ولا فادة إلا وأطال في ذكرها، لم يتوسع في ذكر نتائج هذه المعركة ولا تكبد عناء نقل تفاصيلها بل أشار إليها إشارة عابرة مقتضبة، مما يثير الكثير من التساؤلات المرتبطة بهذه المعركة. فمن المعلوم إن المنطق الحربي يقتضي أن يعقب النصر العسكري مكاسب دبلوماسية وسياسية، بل وارتباطا بهذه المعركة، كان من اللازم أن يصبح للمغرب اليد الطولى في البحر أو على الأقل فيما يخص شريطه الساحلي بعد أن أثبت جدارة حربية في الدفاع عن مجاله البحري، إلا أن ما كتبه المؤرخون منهم ابن زيدان والناصري على الخصوص يخالف هذا المنطق.

ترد أنباء الانتصار في هذه المعركة مقترنة بتعاليق قوية تشير إلى حجم الكارثة، هل كانت العملية جديدة على مؤرخينا؟، إذ لم يسبق أن صادف اقتران نصر عسكري بهزيمة دبلوماسية وسياسية. يقول الناصري في سياق حديثه عن النتائج الميدانية للمعركة وفي سياق تعداد الغنائم الحربية ووصف هذه الملحمة البطولية ودون سابق إنذار يفاجئنا بالقول : “واعلم أن هذه الوقعة هي التي كانت سببا في إعراض السلطان المولى عبد الرحمان عن الغزو في البحر والاعتناء بشأنه” بل إن صاحب الإتحاف، ابن زيدان علق بكلام قاس على نتائج هذه المعركة إذ قال ” وكانت هذه الواقعة وما نشأ عنها من فتح أبواب المشاكل بين الدولة الشريفة والدول الأجنبية من أعظم ما فت في عضد صاحب الترجمة – ويقصد بذلك السلطان المولى عبد الرحمان بن هشام – وأكبر حائل بينه و بين الوصول لبغيته” ، فإذا كان ابن زيدان استعمل عبارة جد خطيرة تبين مدى خطورة المعركة و تداعياتها لدرجة أنها فتت عضد الدولة فإنه أضاف كذلك في سياق الحديث عن المعاهدة الموقعة بين المغرب و النمسا ” وقد كانت من أعظم الأسباب في إهمال المراكب البحرية المغربية والإعراض عن الاعتناء بها” أما الناصري فسيزيدنا توضيحا حين يقول أنه على إثر هذه المعركة “ظهر له – أي للسلطان – التوقف عن أمر البحر رعيا للمصلحة الوقتية ” ويضيف قائلا في إشارة قوية إلى الضغوط الدبلوماسية التي مورست على السلطة بالمغرب عقب معركة العرائش ” أن لا تكون المراكب إلا لمن يقوم بضبط قوانين البحر التي يستقيم بها أمره وتحمد معها العاقبة و تدوم المودة” مما يعني أن المولى عبد الرحمان بن هشام انصاع في الأخير لبنود معاهدة فيينا فيما يخص الأبواب المتعلقة بضبط حركة الملاحة الدولية وبمباركة من النخبة نفهمها من خلال قول الناصري “و لعمري أن تركه – أي العمل البحري – لمصلحة كبيرة لمن أمعن النظر فيها”. وقد لخص السي محمد المنوني الموقف المترتب عن معركة العرائش في كتابه” مظاهر يقظة المغرب الحديث” “أن جعلت – معركة العرائش – حدا لنشاط الأسطول المغربي” كل هذه الملاحظات المساقة في هذا الصدد ومن خلال مجمل الملاحظات التي ضمنها المؤرخان القريبان زمنيا من الحدث، ومن خلال التعقيبات المتلاحقة عن المعركة، يتبين بما لا يدع مجالا للشك أن معركة العرائش كانت السبب في خروج المغرب نهائيا من البحر، واضعة بذلك حدا للتوجهات البحرية للسلطة المركزية المغربية، لازالت معالمها قائمة إلى حدود اللحظة الراهنة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق