الأربعاء، 5 يوليو 2017

خطوط عريضة من حياة الحاج علال عزلي


    بقلم: محمد عزلي


·       النسب

علال بن بوسلهام بن محمد بن بوعزة، من قبيلة اولاد خزعان العربية التي قدمت من السهول الغربية للمملكة المغربية إلى شمالها إثر عملية تجييش القوات المجاهدة التي حاربت تحت لواء الدولة السعدية وانتصرت في معركة وادي المخازن المجيدة (4 غشت 1578م)

 

·       الوالد

بوسلهام بن محمد الخزعاني (1893-1985) تاجر من أعيان العرائش ومنطقة الهبط عموما، تجارته ارتبطت أساسا بالمواشي، فقد اشتهر بتجميع اللحوم والجلود من منطقة الهبط وبيعها بالجملة في مدن العرائش، تطوان، وطنجة.

سنة 1938 كان برفقة شريكه قاسم السوسي أول المغاربة الذين استثمروا في قطاع النقل بمدينة العرائش، حيث تمكنا من إدخال ثلاث حافلات إلى المدينة تقوم بنقل الأشخاص والبضائع، وتعمل بالفحم الحجري، وذلك بعد فشله في الحصول على ترخيص منذ عام 1929، لكنه تمكن من ذلك بعد شراكته بقاسم السوسي، أنشأت الشركة محطة عند باب المدينة، وتوزعت الحافلات عبر خطوط (العرائش - تطوان) (العرائش - الأسواق) (القصر الكبير - القلة)، لتكون بذلك أول خطوط وطنية فعلية إلى جانب حافلات المستعمر الإسباني التي سبق واحتكرت القطاع منذ بداية الاحتلال.

هاجر بوسلهام بأسرته إلى القصر الكبير في شتنبر 1948 مكرها بعد التضييق الذي مورس عليه من قبل باشا المدينة آنذاك (خالد الريسوني)، ليواصل نشاطه التجاري الأساسي (اللحوم/الجلود)، ومن أجل ذلك قام بربط شراكة تجارية مع "الرميقيين" بوصفهم أصحاب سلطة ونفوذ بالقصر الكبير، وفي السنة الموالية (1949) اشترى بوسلهام فندقا وسط المدينة، تمركزت فيه تجارته وكل نشاطاته الاقتصادية والاجتماعية، وظل كذلك على هذا الحال إلى حين وافته المنية، ليدفن بمقبرة مولاي علي بوغالب بالقصر الكبير سنة 1985.

 

·       الوالدة

الزهرة سليلم، توفيت في دجنبر 1929، شهرين فقط بعد ولادة علال، وذلك من جراء أزمة صحية أعقبت حالة من الهستيريا سببها فقدانها لابنها علال الذي قامت جدته باختطافه من أمه وسلمته لأبيه في حادثة يشوبها الكثير من الغموض.

 

·       الازدياد

أكتوبر 1929 بحي القصبة بمدينة العرائش.

 

·       الطفولة

نشأ علال عزلي يتيم الأم ومدللا من الوالد والجدة، ترعرع بحي القصبة بمنزل "السحيساح" (نفس البيت الذي نشأ فيه عبد الصمد الكنفاوي)، قبل أن يشتري والده منزلا فخما وكبيرا بدرب جبيل بحي كاي ريال.

 

·       الدراسة

بدأ مشواره الدراسي من "مسيد امجاو" فأخذ عن الفقيه الجباري ثم المصباحي، وفي سنة 1939 أنشأت المدرسة الأهلية الإسلامية من قبل بعض الوطنيين الغيورين وعلى رأسهم عبد السلام التدلاوي وعبد الرحمان مشبال الكاتب العام للريسوني، وذلك في فضاء مدرسة الجامع الكبير أو المسجد الأعظم بالسوق الصغير، كان الهدف من تأسيس المدرسة هو الحفاظ على الهوية المغربية الإسلامية لمدينة العرائش المحتلة آنذاك، فولجها علال ليسجل اسمه ضمن أفواجها الأولى، وقد تتلمذ على يد فقهاء ومدرسين أكفاء في مختلف المواد الدينية والعصرية، العربية منها و الإسبانية، منهم "الطرابلسي, الجباري, الشكراني, دون سلام، وآخرون"

سنة 1945 سينتقل علال دون علم والده إلى المدرسة الفرنسية العربية "Ecole Franco-arabe" ليواصل دراسته بها إلى غاية عام 1949 الذي ستهاجر فيه الأسرة كلها إلى مدينة القصر الكبير، ولم يكن أمامه لإتمام توجهه الدراسي سوى خيار وحيد يتمثل في المعهد الفرنسي اليهودي، لكن والده رفض الفكرة تماما فتعذر عليه بذلك الحصول على شهادة الباكالوريا، مما أثر بشكل سلبي على نفسية علال عزلي وهو الأمر الذي دفع  والده للاجتهاد في إرضاء ولده وبسط يده في المال والأعمال، فقد سمح له دون غيره من إخوته وأعمامه بمرافقته في تجارته، وتسليمه بعض المهام المتعلقة بالحسابات والتواصل مع أهم الزبناء وكبار الشخصيات المغربية والأجنبية، خاصة في مدينة بتطوان.

 

·       المسار المهني

-          1951-1949: الإشراف على تجارة والده.

-          1953-1951: مشرف ومحاسب لقطاع النجارة في القاعدة العسكرية الأمريكية بالقنيطرة.

-          1953: موظف لدى الإدارة العامة الدولية بطنجة.

-          1955-1953: موظف بالقسم التقني لراديو إفريقيا المغرب بطنجة الدولية آنذاك.

-          1955: سيتوجه إلى العاصمة الرباط لحضور حدث عودة بطل التحرير جلالة المغفور له الملك محمد الخامس طيب الله ثراه من المنفى، وهناك التقى مجددا بصديقه و ابن مدينته وحيه عبد الصمد الكنفاوي الذي نصحه بالتوجه إلى الدار البيضاء لاجتياز اختبار من أجل العمل في التفتيشية العامة لوزارة الشبيبة والرياضة، و هو ما كان.

-          1956: عمل بمكتب الأنشطة الثقافية (القسم السينمائي) بالتفتيشية العامة لوزارة الشبيبة والرياضة بالدار البيضاء.

-          1958: رئيس القسم السينمائي، ومسؤول عن قطاع أسفار الشباب بالتفتيشية العامة لوزارة الشبيبة والرياضة بالدار البيضاء إلى غاية 1972.

-          1972-1964: مدير مركز دار الشباب الزرقطوني بالدار البيضاء.

-          1972: رئيس الدائرة الإقليمية للشبيبة والرياضة بمدينة العرائش.

-          1976: انتقل إلى مدينة القنيطرة لمدة ستة أشهر كمسؤول عن دار الشباب.

-          1976: عاد إلى منصبه بمدينة العرائش كرئيس للدائرة الإقليمية للشبيبة والرياضة.

-          1984: مسؤول بالشبيبة المحروسة أو مركز إعادة التربية (مركز رعاية الطفولة).

 

·       بعض المنجزات

-          في فترة الإشراف على أسفار الشباب بالدار البيضاء، تمكن من عقد عدة شراكات وإبرام مجموعة من الاتفاقيات مع بلدان من مختلف أرجاء العالم لتبادل البعثات والمخيمات.

-          الإشراف على عدد كبير من المخيمات في مختلف أرجاء المملكة.

-          دعم برامج التنشيط السينمائي في المدارس والثانويات.

-          دعم الحركة الثقافية عموما والمسرحية تحديدا من خلال مكتبه بالشبيبة والرياضة مما جعله قريبا من رواد المسرح الوطني بزعامة عبد الصمد الكنفاوي مرورا بأقطاب الخشبة مثل "الطيب الصديقي، أحمد العلج، محمد عفيفي، السكيرج، فاطمة الكراكي، خديجة جمال..."

-          منسق في الدوري الدولي كأس محمد الخامس لكرة القدم بالدار البيضاء، ومسؤول عن وفادة الفرق الأجنبية الناطقة بالإسبانية والبرتغالية، الأمر الذي أكسبه صداقات وعلاقات مهمة مع أشهر اللاعبين ورؤساء الأندية مثل: "موندو، بيلي، بيكنباور، فافا، سوتيل، بيري، ساردوني، راتين، العربي بنبارك، لحسن شيشا...."، وهي أسماء ليست في حاجة إلى تعريف، إذ أنها كانت ببساطة نجوم أعظم أندية العالم "برشلونة، ريال مدريد، أتليتيكو مدريد، فالنسيا، ريمس، بايرن ميونخ، ساو باولو، بوكا جونيور...".

-          تأسيس وإدارة دار الشباب الزرقطوني بالدار البيضاء.

-          تأسيس وإدارة مخيم رأس الرمل بالعرائش.

-          تأسيس مركزين نسويين بمدينة العرائش.

-          المشاركة في تنظيم أسبوع العرائش.

-          الإسهام الميداني الفعال في تنظيم المسيرة الخضراء انطلاقا من دائرته العرائش.

-          إعداد مشروع المركب الرياضي بالعرائش، وبدء الأشغال ميدانيا بغابة لا إيبيكا، الأشغال التي لم يكتب لها الاستمرار بعد انتقال علال عزلي للعمل في مدينة القنيطرة، وعند عودته لاستئناف عمله بدائرة العرائش فوجئ بخبر سحب الميزانية وإلغاء المشروع!

 

·       أحيل السيد علال عزلي على التقاعد سنة 1989، بعد أن تم تكريمه من جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، وذلك بتوشيحه بوسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الأولى.

·       توفي رحمة الله عليه يوم الجمعة 19 غشت 2022 ودفن بمقبرة سيدي العربي المصباحي بمدينة العرائش ظهر يوم السبت 20 غشت 2022.





























































































































الثلاثاء، 4 يوليو 2017

معركة العرائش 1765



من معركة العرايش الكبرى عام 1179 1765 إلى الاتفاقية المغربية الفرنسية عام 1180 1767
     د. عبد الهادي التازي

يتحدث التاريخ الدولي عن المعركة الشهيرة التي كانت تعرف بـ "معركة الملوك الثلاثة" التي واجهت فيها المملكة المغربية الامبراطورية البرتغالية عام 986 1578- حيث أسفرت المعركة عن مصرع ثلاثة ملوك: ضون سباستيان (ملك البرتغال) والملك المولى عبد الملك السعدي ملك المغرب، والأمير المخلوع محمد بن عبد الله الغالب...

تحدث كل المؤرخين في الداخل والخارج، عن هذه المعركة ولكنهم نسوا الحديث عن المعركة الكبرى التي شاهدتها العرايش عام 1179-1765 أيام السلطان محمد بن عبد الله بن اسماعيل (محمد الثالث). معركة العرائش نبهت دول أوروبا، ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى المركز الدولي الذي كان للمغرب الأقصى، حيث نرى أن عددا من الدول تتهافت على المغرب لعقد الاتفاقيات معه: اسبانيا - فرنسا - الدانمارك - الولايات المتحدة..

هذه المعركة تستحق من المغاربة أن يحفظوا تاريخها جيدا، وأن يلقنوها إلى أجيالهم القابلة كلما ذكروا الأيام المجيدة الكبرى للمغرب منذ فجر تاريخه الى اليوم، وما بعد اليوم...
وإن الذي يقرأ عن هذه المعركة بما كتب عنها باللغات الأجنبية، من مقالات وتقارير، ومؤلفات وتعاليق ليستغرب من قلة ما كتبه المغاربة عنها ولو أن بعضهم أنشد فيها الشعر...

ما قاله المغاربة كان دون ما كتبه الآخرون عن هذا الحدث الكبير... ولذلك فقد رأيت من واجبي أن أقوم بملء بعض هذا الفراغ الكبير في تاريخ العلاقات بين المغرب وغيره من الدول، مع اعترافي بأنني أشعر بأنني كنت أيضا مختصرا في هذا الحديث عن تلك الأيام الخطيرة العظيمة التي عاشتها العرائش في أعقاب حملات شديدة في الصحافة الفرنسية آنذاك التي نعتت المغاربة القائمين بالدفاع عن بلادهم بأنهم "ارهابيون"!! ولقد قام الأسطول الفرنسي بعملية واسعة للقضاء على ماسموه "أوكار الإرهاب" في المغرب، وكان في صدر تلك الأوكار مدينة سلا ومدينة العرائش. وقد ذكر المؤرخون أن العرائش رميت بأربعة آلاف ونيف وثلاثين نفضا وأنهم خربوها وهدموا دورها ومسجدها وذلك سنة 20-1179 يونيو 1765. وقد اقتحموا مرسى العرائش في خمسة عشر مركبا شحنوها بنحو ألف من العسكر... وأحرقوا المراكب التي كانت هنالك بالمرسى بما فيها السفينة الملكية التي كان المسلمون غنموها منهم في حملة سابقة..

ولما انقلب الفرنسيون راجعين إلى مراكبهم وجدوا المغاربة، وعلى رأسهم قائدهم الحبيب المالكي قد أخذوا بمخنق المرسى حيث منعوا المهاجمين الفرنسيين من الالتحاق بسفنهم الكبيرة التي كانت تنتظرهم...! وقد ساعدت الريح المغاربة على التحكم في الموقف... وقام الأبطال المغاربة سبحا بتتبع المهاجمين الذين كانوا يبحثون عن مخرج لهم من منطقة الميناء حيث وجدناهم أي المغاربة يستاقون أحد عشر قاربا من المهاجمين...

ويشعر القارئ بالرعب يتملكه وهو يقرأ عن مشهد العشرات من الجند وهم يسقطون بين قتيل وجريح وأسير... حيث كان الصياح يعلو في الفضاء معلنا عن الاستسلام!! وأمام الخطر الذي شعرت به الجيوش الفرنسية لجأت الى طلب الوساطات والمساعي الحميدة من الدول المجاورة الأمر الذي استجابت له المملكة المغربية على شروط وبنود نقرأها في الاتفاقية المغربية الفرنسية المبرمة عام 1767-1180 والتي ذكرناها في كتابنا التاريخ الدبلوماسي. وكان من أبرز هذه البنود البند الحادي عشر الذي تلتزم فيه الحكومة الفرنسية ببناء مساجد بفرنسا يمارس فيها المسلمون شعائر دينهم على نحو سماح المغرب للفرنسيين المقيمين في المغرب بممارسة طقوسهم الدينية..

ومن الطريف أن نذكر هنا أن جامع باريس الذي تم بناؤه في الربع الأول من القرن العشرين كان نتيجة لهذه الاتفاقية التاريخية الهامة التي كانت بعد معركة العرائش! والأطرف من هذا أن نستحضر هنا خطاب العاهل المغربي السلطان المولى يوسف بن السلطان الحسن (الأول) الذي ترأس حفلة تدشين الجامع المذكور، ويشير فيه الى المعاهدة المغربية الفرنسية عام 1767-1180 على عهد جده الملك محمد الثالث. هذه اللقطة من تاريخ المغرب بالأمس... تتراءى أمامنا كل مازرنا باريز، وذكرنا قادتنا بالأمس البعيد والقريب...


نشر بجريدة العلم في 19 دجنبر 2009

صورة المنشور : ذ. حسام الكلاعي

السبت، 1 يوليو 2017

يوم صارت مقهى سنطرال جنة

شـبهة الـذاكرة
يوم صارت مقهى سنطرال جنة
الى البا الطيب في ذكرى وفاته



   بقلم : عزيز قنجاع

في أ حد فصول سنة 1987 دخلت مقهى سنطرال، كانت تعرفي اليها من نوع تلك التعارفات التي تخرج عن سياق الترتيب والإعداد. كانت قدرا، صدفة، رغبة، لعبة من التشابكات التي تتمازج فيها تدابير الإرادة والجبر وحتميات التسيير واختيارات التخيير. كانت العرائش حينها تعيش على إفرازات العهد الإداري الجديد، الذي واكبته مظاهر غاية في الجدة والتي ستبهر سكان المدينة لمدة طويلة، فمن المقاهي الجديدة بأسماء غاية في الانشراح كالابتسامة والسعادة والغروب ....الخ إلى فتنة فتيات المدارس الصغيرة بالموظفين الجدد، الى المهندسين الذين لم تكن تعرف المدينة قبلهم هذا الاسم، مهندسون متأثرون بمفاهيم الهندسة الحديثة، يكرهون كل ما هو دائري، فأعملوا بكل ساحات المدينة مفاهيم الهندسة غير الأوقليدية لتنسجم مع مرادفات أغنية الفاتنة نانسي عجرم شخبط شخبيط.
المقاهي الحديثة جلبت إليها شبابا وشريحة عريضة من فئة اجتماعية حديثة البروز بالمدينة، مقاهي جميلة تستهوي بفناجينها العجيبة وكراسيها المريحة ونوادلها الصغار بتسريحاتهم وبدلاتهم اللائقة الأنيقة الزبائن الذين يبحثون عن أماكن توافق أمزجتهم ومواقعهم وأحلامهم. وسنطرال كانت من نوع تلك المقاهي العتيقة التي لم تعد تثير سوى جيل قديم من عرائشيين كانوا يجتمعون على طاولات قديمة من الرخام، وكراسي من خشب قاس، وكؤوس صغيرة من زجاج، في هذه الأجواء وأنا استقبل يفاعتي بدأت بارتياد مقهى سنطرال . كنت اجلس وحيدا بين رجال بلغوا من العمر عتيا إلا عندما أكون مع الصديق عبد السلام الصروخ "الذي سيكون له نفس المسار مع هذه المقهى " حيث يحجب الواحد منا الآخر. ولكي لا أضيع وسط هذه الأعمار فضلت الجلوس على الكنتوار وفي الحقيقة عزلت نفسي على الكنتوار، المكان الذي يكسر مبدأ الثالث المرفوع، لأنه ببساطة في كنتوار مقهى سنطرال يمكنك ان تجلس وحيدا في الوقت الذي أنت منغمس فيه بالجماعة، عادة الكنتوار ستلازمني طويلا ومن على ضفافه بدأت علاقتي ببا الطيب .
كان البا الطيب رجلا قصير القامة، يستطيع ان يتحرك في المساحة الضيقة الصغيرة الفاصلة بين فتحة المطبخ حيث يطهى الحليب وينقى النعناع وبين الكنتوار بخفة قط، كان ضوضاء من العمل، بدخا من النشاط، صخبا من الحركة. كانت حركاته كافية لتحويل هذا الزهد في المساحة الى ميدان قتال حقيقي حيث تعصر القهوة، وتطبخ خلائط الشاي، وتكسر عروش النعناع، ويهرق الحليب على مقاسات معلومة، ويرمى بالبروبينا وراء ماكينة القهوة في انتظار قسمة الليل العادلة، ويلبى طلبات المئات من أولائك الرجال الجالسين على الكراسي وأعناقهم مشرئبة، يتناولون الكلام جماعة، ويصمتون جماعة، ويدخنون جماعة، ويرمون رماد سجائرهم وأعقابها على الأرض، لأن مقهى سنطرال لم تكن توجد بها مرمدات تسعف المدخنين في لم رماد سجائرهم، وداخل هذه الضوضاء كان صوت بيبي pépé بنبرته المتحشرجة يعلو على هذا الضجيج، يختار مكانه داخل الكنتوار بدقة في الجهة المشرفة على النافذة المطلة على ساحة اسبانيا، واضعا مسافة بينه وبين البا الطيب قرب مرفعات الزجاج العاكس، حيث تصطف بعناية قنينات الكونياك وباستيس وبقايا خمور في زجاجات عتيقة كأنها لقى أثرية تدل على أولائك الذين مروا يوما من هناك، وعندما يطلب احدهم من تلك البقايا يرد بيبي ببساطة ممنوع على المسلمين. حتى أن كثيرا من الذين يأتون من مدن أخرى ويلحظون تلك القنينات ويطلبون بعضا من بركتها، كانوا عندما يتلقون هذا الجواب، يتعجبون كيف اتفق النصارى والله في مقهى سنطرال على تحريم الشيء نفسه على المسلمين، إلا أن بعضهم كانت تصله بركات بيبي بعيدا عن أعين المتربصين.
الذين عرفوا البا الطيب خلال السنوات الأخيرة لسنطرال بعدما خضعت لقانون المغربة، قالوا عنه كلاما يفيد ان البا الطيب يحب الكلام، ويمازح زبناء الكنتوار بل ويداعبهم بكلمات قد تصل الى منحنيات جد منخفضة ، أما أنا الذي دخل المقهى في تلك السن فبقيت احتفظ بكميات هائلة من الرهبة حيال هذا الرجل كانت تمتزج أحيانا بشعور من الخوف والحقد لم يكن يخفف منه سوى نظرات الود التي كانت تستقبلني بها زوجة بيبي سوزانا التي كانت تعتني بي دون كلام ما عدا إيماءات رأسها التي تفيد السؤال عن المطلوب: " قهوة".
سوزانا بقيت لاصقة بذاكرتي امرأة قليلة الكلام وبمظهرها الصارم وظهرها المتحدب بفعل الزمان كانت لها سلطة خارقة في تسيير المقهى حتى ان حضورها اليومي على الساعة الخامسة صباحا يلبس المقهى حالة من صرامة العسكر التي لا تتوقف الا بمجيئ بيبي الى المقهى على الساعة السابعة، كانت سنطرال تفتح أبوابها للزبائن خلال فصل الشتاء على الساعة السادسة صباحا وكنت أجيئها حوالي الساعة الخامسة والنصف صباحا. كان الندلة يمسحون الأكواب والطاولات بعناية ودقة، ويرصون الكراسي ويمسحون زجاج النوافذ ويرشون الماء على جنبات المقهى، وكان الكنتوار كعادته معدا منذ ليلة البارحة، لذا لم أكن بخبرتي احتاج إلى الانتظار حتى السادسة صباحا لأحمل كتبي المدرسية ورواية وقلما احتفظ به في الجيب الخلفي للسروال. لم تكن القراءة الشيء الوحيد الذي يرمي بي في تلك الساعات المبكرة لولوج سنطرال، بل الرغبة العارمة في انتشاق رائحة القهوة ومذاق دخان شواء الطوسطادا، تلك الرائحة التي انتقلت مع الأيام من خياشيمي إلى مستويات عميقة في ذاكرتي، ولاستمتع بأغاني الصباح الأندلسية المبثوثة عبر الإذاعات الاسبانية من مذياع سوزانا الذي كانت تضعه بارزا فوق الكنتوار، تنصت الى برامجه وعيونها الشاردة لا تمنعها من إصدار أوامرها بين الفينة و الأخرى.
 - "اوسطيد كي كييريس"  usted que quieres وهي تقترب مني حاملة صحنا صغيرا من الاليمينيوم وملعقة وحاوية سكر.
- "طوسطادا إي كافي" هذا الجواب لم يدم طويلا لأنه لم يعد هناك سؤال البتة. فبمجرد دخولي في الصباح كانت سوزانا تقول للبا الطيب باسبانية صباحية كسولة " ديسايونو بارا الخوبين"اي فطور الى الشاب.
 هذا الحضور القوي لسوزانا كان يختلف مساء كل سبت حين تستقبل صديقاتها رفقة أزواجهم على الكنتوار حيث يقضين اوقاتا يحضر فيها الكثير من الفرح و الكلام، كانت سوزانا تبدو من خلال إيماءات الحاضرات امرأة ذات جاذبية مميزة، ما أروع تلك المرأة يوم ماتت في خريف 2004 قبلت بيبي وقدمت له التعازي،  رد قائلا بوبرية، نعم هكذا قالها: المسكينة.
كان لهذا الاحتضان الدافئ أن خفف من النظرات الحادجة للبا الطيب الذي وجدني أزاحم زبائنه القدامى على كراسي عرينه، مما اضطره الى قبولي عنوة، لم تكن سوزانا وحدها التي قبلت وجودي على الكنتوار بل بيبي pépé كذلك  فإذا كانت سوزانا قد أمنت حضورا لي في الصباح فان بيبي كان يقبلني في ساعات متأخرة من المساء حين كنت اجلس قبالته وهو يعد بمهارة فائقة وأناقة خارقة سمكة كبيرة من الدرعي يعدها لزبنائه لوجبة غذاء الغذ، فقد كانت مقهى سنطرال ابتداء من الساعة الثانية عشرة الا ربعا، تقسم بواسطة حائط خشبي مشبك وفتحات صغيرة تترك مرآى للمتلصصين، الى قسمين مطعم جهة الباب الخلفي وتبقى المقهى مقصورة على الباب الرئيسي و باب الباسيو. عندما كان ينهمك بيبي في ساعات متأخرة في إعداد السمك واصوات خفيفة لحركة سرية دائبة تسمع بالمطبخ، كنت أنزوي في الزاوية المشرفة على بلاصا اسبانيا اشرب القهوة واستعد للسهر، كان بيبي يطفئ كل الأضواء و يترك ضوءا خافتا ناحيتي استطيع من خلاله أن أقرا ما كنت احمله عادة معي من روايات، كانت هذه المعاملة الطيبة لأصغر زبون بالمقهى تحد من عجرفة وقوة الحضور الطاغي للبا الطيب الذي بدأ يعاملني معاملة فيها الكثير من المضض.
كانت بداية الصفاء مع البا الطيب في شهر يونيو من سنة 1990 عندما دخلت سنطرال رفقة مجموعة من الاصدقاء و استحودنا على الكنتوار. وقفت سوزانا مذهولة من هذا الخوبين الهادئ الذي يدخل فجأة ويهدم هذا الجلل، آخر ما تبقى من هيبة سنطرال. ناديت على البا الطيب بجرأة لم يعهدها، وطلبت للجميع عصير البرتقال وأخبرته أننا جئنا نحتفل بنجاحنا في الباكالوريا، التفت البا الطيب الى سوزانا التي تفاديت النظر إليها وحدثها باسبانية سريعة ، نادت على نادل باسم علي وقام هذا الأخير بتعصير البرتقال وعندما دخل بيبي قالت له سوزانا كلاما فهمت في الأخير عندما أصر الصديق نور الدين الوهابي ان يدفع الحساب عن الجميع أن الطلبات كراتيس اي مجانا.
لن انسى ذلك الصباح البارد من سنة 1992 وانا احمل تلك الحقيبة التي رافقتني الى كل المحطات وركبت معي كل القطارات وجابت معي كل البلاد  تجاسرت يومها على البا الطيب وقلت له أنني مسافر الى مرتيل وأود قهوة تزيل النعاس و البرد، كلمة البرد توقف عندها البا الطيب طويلا ليكون جوابه في الأخير كاراخيو. منذ ذلك الوقت اصبح البا الطيب طبيبي في محن السهر ومحن السفر ومحن الصباح عندما يكون مخك سائلا يتحرك وفق حركة التيارات البحرية، كانت وصفات البا الطيب ومخلوطاته علما مستقلا، كان عطارا متمرسا في قضايا الحال، مخلوطات بأسماء اسبانية لم اكن اعرف منها الا ماجادت به قريحة والدي وهو يلعن فريق برشلونة.
ذهابي للدراسة بمرتيل بدل الشيئ الكثير في علاقتي مع البا الطيب فعندما كنت اعود من تطوان كنت احكي له عن الجامعة وقصص الحب وقنينات الخمر المُهرَّب والتسكع على شواطئ المتوسط وهكذا ابتدأت علاقة من الود والحب، حتى انه يوم خيره محمد الصروخ الذي رافق البا الطيب في ايامه الاخيرة على الكنتوار من يسلمه شهادة الاعتراف في الحفل الذي نظمته النقابة اعترافا له، قال للصروخ أريد أن يسلمني الشهادة اقدم زبون بالمقهى، فقبلته يومها على خده وأحسست أن زمنا قائما انتهى. وفي ذلك اليونيو من سنة 2005 حينما جئت الى سنطرال ووجدت أبوابها نصف مقفلة كان معي ابني الصغير مهدي الذي أصبح زبونا للسنطرال في شهره الخامس بادرني الجميع : مات البا الطيب، وضعت يدي على رأسي وبدأت أبكي، سألني ابني الصغير ذو الاربع سنوات ماذا بك، أجبته: مات البا الطيب.
 توجهنا صوب منزل البا الطيب وهناك رأى ابني أناسا يتبعون الجنازة فسألني أين البا الطيب؟ قلت له هناك وأشرت الى النعش، فقال لي لماذا هو هناك؟. قلت: له لأنه مات وذهب عند الله. فسألني و اين الله؟ قلت له في السماء، فسألني ولم هو في السماء؟، التففت على سؤاله و بادرته، كلنا سنموت. قال لي حتى انت ابي ؟ قلت له نعم. بدأ يبكي ثانية، فقلت له عندما نموت سنذهب الى الجنة وفيها العصير والبرتقال. قال لي تشبه سنطرال، اجبته نعم كسنطرال ولكن كبيرة جدا. وسألني هل سيعطيني البا الطيب العصير هناك قلت له نعم. وهل سيكون معنا عمو رشيد؟ قال لي. قلت له سنكون هناك جالسين في التيراسا كما نحن الان. حينها سألني ومتى سنموت اريد ان نذهب هناك. قلت له لم يحن الوقت بعد. فبدأ يبكي، فقلت له سنذهب حتما ولكن ليس الآن. قال لي ومن سيعطينا العصير؟، قلت له حاتم. قال لي أنا  أريد عصير البا الطيب. فبدأت اشرح له من جديد حتى تقلصت الجنة تدريجيا لتدخل من خلال ذهنه الى سنطرال وتتوسع سنطرال في ذهنه لتصل الى حدود الجنة.