السبت، 28 نوفمبر 2020

موظف الاستقبال

بقلم ذ/ عبد السلام التدلاوي


ناداني بابتسامة ناصحا أن أضع حقيبتي فوق كرسي المقهى عوض وضعها على الارض، وأنا آخذ مكاني على إحدى الطاولات الخارجية. شكرته وحذقت إليه محاولا التذكر. كان وجهه مألوفا. خاطبني مشيرا إلى أن لهجتي شمالية.

_عرائشي بحقيبة سفر منذ زمن طويل. وجهك مألوف لدي سيدي

_ أنا أشتغل في فندق إسبانيا اسمي "الفاضل"

_ الآن عرفتك، أنتما اثنان، تعملان في الاستقبال في الفندق منذ عقود طويلة.

_ تقصد زميلي ادريس اخريشف، رحمه الله

_ إنا لله وإنا إليه راجعون، لم أدر إلا الآن.

تأسفت للخبر، واستطردنا في الحديث، حدثني عن ظروف وفاة زميله، و عن ظروف العمل، و عن اللغات الست التي يتحدث، مشيرا أنه في طور تعلم اللغة السادسة

_ كم هو جميل أنك مازالت لديك رغبة للتعلم، هذا ما يسمى بالفعل تعلما مدى الحياة. ما هي اللغة السادسة؟

_ الإيطالية، اتعلمها من خلال قناة تلفزية، إنها ما بين الإسبانية والفرنسية.

_ أنا كذلك حاولت تعلمها، لم أكن موفقا.

_ ا تدري؟ سبق واشتغلت في فندق بطنجة، كنت لا اتكلم الإنجليزية، وحيث كان معظم زبنائنا إنجليز، تعلمت الإنجليزية في أربعة أشهر، كنت أتلقى دروسا خارج أوقات العمل. كنت أدفع نصف أجرتي مقابل كراء غرفة في بنسيون، والنصف الآخر مقابل دروس الإنجليزية

_ إذن كنت تعيش من بقشيش الزبائن، ومن تقديم خدمات اخرى كالإرشاد السياحي

_ وما أدراك؟

_ اشتغلت موظف استقبال بفندق.

_ أنت ابن الحرفة إذن، بالفعل اشتغلت مرشدا لفترة من الزمن في طنجة...ماذا عنك؟ ماذا تشتغل اليوم؟

_ امتهن التعليم حاليا.

_ أفضل بكثير من شغل الفنادق، هنيئا لك، مهنتنا أحوال أصحابها لا تسر.

_ أعرف ذلك با الفاضل، و مع ذلك يطلب منهم رسم الابتسامة على الوجه، لقد رسمتها على وجهي مدة خمس سنوات. 

واصل الحديث عن معاناة الحجر الصحي، وما بعده، بعد ان تراجع القطاع بكثير. سألته عن نوعية زبناء الفندق، رد قائلا:

_ كما تعلم، اسم الفندق "إسبانيا" وبجانبها كان في يوجد مسرح إسبانيا، صاحبهما كان إسباني يدعى فيديريكو. نشاط الفندق كان مرتبطا بشكل كبير بأنشطة المسرح الذي كان يستقبل جميع العروض الإسبانية المسرحية والفنية بشكل عام، استقبل المسرح والفندق جميع فناني الساحة الإسبانية أواخر سنوات الاستعمار، أتدري قيمة ما أقول؟

_ نعم، وبعد الاستعمار؟

_ ظل الفندق يستقبل جميع الفنانين المغاربة المارين من العرائش.

_ بالتالي الركود الثقافي الذي نعيش اليوم له أثر على ركود قطاعكم؟

_ أجل، وكذلك كان هدم بنيان شاطئ راس الرمل نقطة تحول كبير في تاريخ القطاع. لم نعد نستقبل سياحة بالعدد الذي كنا نستقبل، لم يعد الشاطئ كما كان من قبل. اما بالنسبة للثقافة، فما زال قبر جان جونيه يستقطب زوارا، يأتون إلى الفندق. أتدرى أن جان جونيه كان يقيم في فندق إسبانيا؟

_ نعم لقد قرأت هذا.

_ أراك مهتما بالتاريخ.

_ أهتم بتاريخ البشر أكثر مما أهتم بتاريخ الحجر، لذلك أتسمح أن آخذ رؤوس أقلام عن حديثنا هذا، لكي أدون وأنشر بعد إذنك هذا التاريخ؟

_ بكل سرور... لكن لم تقل لي من تكون؟

_ وُلدت في ذلك البيت المطل على الساحة

_ إذن خالك هو السي محمد رحمه الله، كان صديقي بالرغم من أنه يكبرني سنا، كان فنانا تشكيليا معروفا خصوصا لدى الإسبانيين. كان نعم الصديق، ظل يراسلني بعد أن هاجرت إلى هولندا، حيث قضيت هنالك فترة غير قصيرة.

_ كنت مهاجرا! تجاربنا متشابهة إلى حد بعيد، مع أن تجاربك أطول وأعمق.

طلب مني المعذرة لملئ شبكة كلمات مسهمة، أخرج جريدة ورقية من جيب سترته، تركته ينهال على الجريدة بنهم. وحين انتبه إلي أنظر إليه وهو يقبل على الشبكة باهتمام كبير، قال:

_ بالرغم من تحدثي لغات أجنبية، أحب اللغة العربية، إنها "معشوقتي". تعالى، لاحظ، كنت على وشك أن أتم شبكة أمس، كلمة واحدة لم أكن موفقا فيها، "معلَّم", إنها مرادف ل "موسَّم" خلتها "معلِّم"

_ بل أنت معلِّم، لقد أضفت إلى قاموسي للتو كلمة جديدة، أنت علامة للفندق وجزء من رأسماله، قرأت تعاليق الزبناء عنك، تستحق منا أن نوسِّمَك بوسام شرف تضعه على بذلتك و أنت تبتسم للزبناء في بهو الفندق.

_ هذه الابتسامة عمرها خمسون سنة.

_ إنها رأسمال بشري...دامت لنا الابتسامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق