الأحد، 23 ديسمبر 2018

الباخرة كويتزال


كويتزال، الباخرة التي صارعت الوحش  


   محمد عزلي

الاسم :
الكويتزل هو طائر بهي جميل تشبه تشكيلة ألوان ريشه العلم الفلسطيني (الصورة 6)، يصنف من عائلة الطرغونية، يتواجد في الغابات والأراضي الحرجية، وخاصة في المرتفعات الرطبة الاستوائية بأمريكا اللاتينية (غواتيمالا، بانما، كوستاريكا..).
الباخرة :
كانت الباخرة "كويتزال" جاهزة للإبحار لأول مرة في 14 مايو 1867 بحوض بناء السفن "هنديرسون، كولبورن وشركاه" في بلدة رينفرو بضاحية العاصمة الاسكتلندية كلاسكو حسب دليل "غريس" وهو المصدر الرئيسي للمعلومات التاريخية عن الصناعة والتصنيع في بريطانيا، كان اسمها "كيلبي" عند الإنشاء، وأول مالك لها هو جيمس إتش كلايتون من لندن سجلها في كلاسكو بتاريخ 29 يونيو 1867، طول السفينة 98.7 قدم، عرضها   15.1 قدم، وارتفاعها 9 أقدام. وزنها الصافي 30 طن، حمولتها 60 طن، وقدرتها القصوى تصل إلى 102 طن حسب النظام القديم "مورسم"[1].*
تعاقبت السفينة على ملاك بريطانيين وهم على النحو الآتي: (1869، فريدريك جريتون، من بيرتون)؛ (1873، ألبرت وود، من تشيستر)؛ (1875، جورج راي، من ليفربول)؛ (1877، جيمس موفات، من كيلسو باسكتلندا)؛ (1880، توماس نيوتن، من وركشير الإنجليزية). ثم انتقلت الباخرة سنة 1894 إلى إسبانيا بعد أن اشتراها خوسي مارتينيز دي رودا "ماركيز دي فيستابيلا" عضو مجلس الشيوخ لدى الملك الإسباني ألفونسو الثالث عشر (الصورة 3)، وهو من أسماها "كويتزال"[2]، وعين عليها القبطان خوان غونزاليس كوينكا قبل أن يبيعها في مايو 1898[3] إلى المركيز خوسي فرير فيدال وسولير (الصورة 4)، وهو مصرفي، سياسي، ورئيس نادي اليخوت في مدينة برشلونة[4].*
ومع انتقال الباخرة كويتزال إلى ملكية ميغيل دياز بينتو (ميغيليتو) الذي كان يقودها بنفسه ابتداءً من العام 1905[5]، وتوقيع المغرب لمعاهدة الجزيرة الخضراء سنة 1906 التي خولت للقوى الإمبريالية تنسيق مصالحها الاقتصادية والسياسية في البلاد، أصبحت كويتزال سفينة شحن تعمل على الساحل المغربي، وتقوم بأربع أو خمس رحلات شهريًا بين طنجة (الصورة 5)، والعرائش (الصورة 1)، إضافة إلى موانئ أخرى بالضفة الأيبيرية أهمها جبل طارق وقادش، هذه الأخيرة كانت آخر ميناء ترسو فيه كويتزال قبل أن تغرق وهي مبحرة صوب العرائش عبر طنجة في 17 أو 18 أكتوبر 1916 بعد أن اشتعلت فيها النيران، ولم ينجوا من المسافرين عليها إلا القليل ممن أسعفهم الحظ وقاوموا قسوة المشهد قبل أن تصلهم أول سفينة عابرة[6].


كويتزال ومرسى العرائش :
شكلت الباخرة كويتزال أهمية بالغة لدى السلطات الرسمية الإسبانية التي استعملت الباخرة بشكل قار ومكثف في مرسى العرائش وذلك لأسباب رئيسية ثلاث :
1.   صغرها، وبالتالي قدرتها على الدخول إلى مرسى العرائش الشهير آنذاك بخطورة الولوج إليه، رغم أن الباخرة في الأصل بنيت للسفر والترفيه في المياه الهادئة[7].
2.   تعدد الاختصاصات، حيث كانت الباخرة تقوم بنقل السلع والمسافرين المدنيين، كما كانت البحرية الإسبانية تعتمد عليها لنقل القوات العسكرية، السلاح، والسجناء. وقد لعبت الباخرة دورا هاما وحاسما في الإنزال العسكري الإسباني بمرسى العرائش عند احتلالها سنة 1911.
3.   قدرتها التنافسية، وهذا ما تشير إليه الأرقام والإحصائيات المتعلقة بالصادرات والواردات التي حملتها السفن والبواخر من وإلى مرسى العرائش بين سنتي 1908 و 1909، حيث كانت الهيمنة واضحة للسفن البريطانية ثم الألمانية ثم الفرنسية على حساب الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والنرويجية والدنماركية والمغربية سنة 1908، بينما تحسن النشاط الملاحي والتجاري الإسباني بشكل ملحوظ في السنة الموالية على حساب البواخر البريطانية، وقد كانت كويتزال سببا مباشرا في هذه النتيجة[8].
وعن مغامرات الباخرة كويتزال بالساحل المغربي وعند المدخل الرهيب لمرسى العرائش نشر مدير صحيفة "إمبارسيال" الإسبانية، لويس لوبيز باليستيروس في عدد الأربعاء 26 أبريل 1911 تلك الأوقات العصيبة التي مرت على الراوي في ليلة مظلمة لم يكن يعتقد أنه سينجو منها، صحبة شخصية مغربية شجاعة (محمد بن الرايس) وصاحب السفينة وربانها ميغيل دياز بينتو (ميغيليتو) الذي وصفه بأنه "... يعرف كل شيء طنجة، العليق، العبرية، الإسبانية، الكتلة السكانية..."، وكان مفتخرا بكونه يستطيع الدخول إلى مرسى المدينة التي تخيف قباطنة كل البواخر الأخرى وتجعلهم يكتفون بالنظر إلى العرائش من بعيد.
المعاناة تبدأ حسب الراوي منذ الانطلاق من مرسى طنجة عند الرصيف أو الحاجز الصخري، فالصعود إلى الباخرة يقتضي بالضرورة المرور عبر قارب خشبي صغير لا يمكن رؤيته في حلكة الليل، "... لكن لم تكن هناك قوارب، ولا ملاحون، ولا طريقة محتملة لنقل البضائع... وبينما كانت الأمواج تغطي بالكامل سلالم المراكب الصغيرة، كان يجب إطلاق القارب من حاجز الأمواج؛ أي كان علينا القفز إلى الفراغ بافتراض أننا سنقع في قارب لا يمكن رؤيته..." ويثني الراوي على القبطان المحنك ميغيليتو وفطنته ومرونته وعلى شجاعة محمد وحسن تصرفه بتأمين نقل السلع ثم الأمتعة على متن القارب ومساعدته على القفز ثم الصعود للباخرة كويتزال بشكل شبه عمودي وكأنك صاعد للطائرة.
هذه الرواية الواقعية هدية وثائقية غنية بالتفاصيل الدقيقة، منها أن الباخرة تحولت من مركب ترفيهي فاخر إلى ما يشبه حافلات الأرياف بسبب كثافة الرحلات ذهابا وإيابا وكثرة الحمولة مما يجعلنا نكون انطباعا عن شكل الحركة الملاحية عموما والتجارية تحديدا، كما يصور لنا الأهمية التي أعطيت لمرسى العرائش مقارنة بكاب سبارتيل وأصيلة التي يقول عنها الراوي أنه لا يجد فيها ما يذكر سوى أنها بلدة صيد صغيرة بين العرائش وطنجة غرب المستعمرة الرومانية زيليس. أما العرائش يقول الراوي فهي بعد أصيلة على مسافة ساعتين من الإبحار يستغلها القبطان ميغيليتو بممارسة "رياضة" قصف الدلافين بمسدسه "الماوزر"، قبل أن تلوح المدينة للناظرين ببياض لونها وحزامها الرمادي المكون من أسوارها الدفاعية التي بناها الإسبان زمن الاحتلال الأول في القرن السابع عشر، ومآذنها النحيلة، إنها العرائش "...  الحصن الحقيقي لأعشاش القراصنة المشهورة وغير القابلة للاستئصال عبر التاريخ ... كل الجهود للسيطرة عليها من قادة البحر العظماء كانت عديمة الفائدة... ساكنتها الساحلية الأصلية الشجاعة من المدافعين والمتواطئين مع القرصنة المتوحشة في جميع الأوقات، كانت هي العقبة التي تحطم بها غضب أوروبا...".
عند وصول الباخرة إلى الساحل المقابل للجرف الصخري حيث تربو العرائش، كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحا، والوصول في ضوء النهار شرط هام لتحقيق السلامة في الممر الرهيب المؤدي إلى المرسى، القبطان في كامل تركيزه مستعينا بخبرته يثبت كلتا يديه في المقود مبديا ثقة وحزما، عيناه لا تفارقان الشريط الساحلي الخطير "فم السبع"، عليه أن يأخذ مسار مصب وادي لوكوس في نسقه الأكثر عمقا، فالممر خطير على البواخر حتى مع بناء حاجز الأمواج الجديد الذي لم يكتمل بعد، ورغم هدوء الصيف، وذلك بسبب الأمواج العالية والحاجز الرملي وتفاوت مستويات العمق التي تفرضها ظروف المد والجزر وما يحمله النهر العظيم من ترسبات. دخلت الباخرة إلى مخاضها مستسلمة للأمواج تتلاعب بها تارة في السماء وتارة في قعر الماء فارضة هيبة المكان على المسافرين المتشبثين بالأعمدة الحديدية والأجسام الثابتة، وحتى على ميغيليتو الفخور بمجده المتكرر باختراقه الناجح في كل مرة. وفجأة تهدأ الأمور وتصبح أشبه بنزهة فاخرة بعد أن تجد السفينة خطها بقناة الوادي التي ستوصل كويتزال بأمان إلى رصيفها بالمرسى. وفي وصف المشهد، ووصف العرائش يقول الراوي "... تنساب كوتزال في القناة الواسعة المحاطة بالكثبان الرملية، بجوارها توجد جزيرة رائعة من المساحات الخضراء... وإذا ما اكتمل بناء المرسى ستقل أهمية طنجة، وستصبح العرائش أهم ميناء في المملكة نظرا لسهولة الوصول منها إلى العمق المغربي، كما أن كل تجارة الغرب والجنوب تتم عبر العرائش، الإسبان يعرفون قيمتها الحقيقية وأهميتها العسكرية الهائلة، إنها مفتاح طرق الغرب وفاس (جنة المغرب الحقيقية)... تقع المآثر القديمة في حدائق الهيسبيريديس التي أصبحت اليوم مراعي السلطان الشهيرة، حيث تتكاثر أفضل الخيول المغربية الرائعة وجميع أنواع الماشية، بين الخضرة الدائمة على ضفاف نهر لوكوس الذي يروي غابات كاملة وبساتين البرتقال وأشجار الليمون وأشجار الفواكه من جميع الأنواع ... من الرائع أن نفكر في ما يمكن القيام به كدولة في العرائش باستخدام الظروف الطبيعة، وواد لوكوس الذي يمكن الملاحة فيه إلى القصر الكبير، واستخدامه كطريق تجاري تكفي فيه الحبوب المزروعة في الأراضي الداخلية الشاسعة لضمان ازدهار تجاري هائل..."*
وفي رواية أخرى نشرها صحفي بنفس الجريدة (إيمبارسيال) بتاريخ 24 يونيو 1911، تحدث  ألفريدو ريفيرا عن ليلة الاختبار والساعات الخمس من العذاب الفظيع في رحلته من طنجة إلى العرائش على متن الباخرة كويتزال بتاريخ 19 يونيو 1911، عشرة أيام فقط بعد الإنزال البحري الإسباني بالعرائش واحتلال حاضرتي اللوكوس (العرائش/القصر الكبير)، كانت السفن الحربية الإسبانية هناك عند مشارف الساحل المقابل للعرائش، مرت كويتزال من بين القطع الثلاث (ألميرانطي لوبو، كاطالونيا، وكارلوس الخامس) لتبدأ بعدها أخطر مراحل الرحلة وهي الدخول إلى مرسى العرائش، حتى أن ميغيليتو ربان السفينة قال لألفريدو "هذه الرحلة أسوأ من تلك التي قمت بها مع مديرك، لكن لا تقلق، سوف تنجو". كانت حالة البحر سيئة للملاحة والدخول إلى مرسى العرائش مستحيلا مع تلك الأمواج العاتية، فقد مرت أربعة أيام يقول الراوي قبل ذلك التاريخ لم تعبر سفينة فوهة الوحش أو فم السبع أو مدخل قناة الوادي المؤدي إلى المرسى، ورغم الصراخ والتحذيرات من طاقم السفينة الفرنسية (أناطولي) القادمة من مرسيليا، قرر ميغيليتو ركوب الخطر والمضي قدما بمناورة سريعة اخترق بها جدران الأمواج التي تلاعبت بالسفينة بين السماء والهاوية، وبعد لحظات عصيبة، تجاوزت كويتزال الحاجز الرهيب وطفت برفق على مياه الوادي إلى المرسى الخطير محملة على الخصوص بانتصار جديد للربان الشجاع ميغيل دياز بينتو (ميغيليتو)*. 
السفينة كوتزال لعبت أدورا هامة إبان عملية احتلال العرائش والفترة التي تلتها، سواء تعلق الأمر بنقل الجنود والمعدات والأسلحة للقوات المحتلة، أو بالدور التمويني والتجاري والخدماتي، حتى أن المخزن المغربي نفسه استفاد من رحلاتها، حيث استورد من خلالها منتجات أوربا العصرية وما أبدعته الصناعة والتكنولوجيا الحديثة، وهو ما يؤكده مقال آخر بجريدة (أبيسي) الإسبانية بتاريخ 26 يوليو 1911 يشير فيه إلى وصول معدات التلغراف اللاسلكي إلى مرسى العرائش على متن الباخرة كويتزال*.
وفي العام الموالي 1912 تسلم القبطان ميغيليتو مكافأة شرفية على شجاعته الكبيرة رفقة قائد الميناء وقبطان سفينة التريكي المخزنية سيدي محمد الكوش، وأيضا المهندس الألماني د. أدولفو بوبرغ المسؤول عن نفس السفينة التي أصبحت قاطرة ساحبة للسفن العالقة أو غير القادرة على العبور إلى مرسى العرائش، وذلك لتدخلهم الشجاع والحاسم لإنقاذ سفينة شراعية إسبانية تدعى "خوسي كوبيرو" تهالكت بين أمواج مدخل الميناء وكانت في طريقها للغرق الحتمي، جاء هذا مقال آخر صدر عن نفس الجريدة (إمبارسيال) بتاريخ  في 21 فبراير 1912*.
هكذا كتبت الباخرة الإسبانية كويتزال اسمها واسم قائدها ميغيل دياز بينتو (ميغيليتو) بأحرف من ذهب في سجل الشجعان الذين لم يهابوا المرسى التي أرعبت الأجانب على مر العصور، فكانت إحدى أهم أدوات الاحتلال الإسباني رغم صغرها ومحدودية حمولتها، وقد واصلت لعب الدور المنوط بها عسكريا وتجاريا إلى غاية 1916 حين احترقت ناراَ وسط المحيط وغرقت بين قادش والعرائش.

[1] نظام مورسم Moorsom استخدم في بريطانيا العظمى كطريقة لحساب حمولة البواخر والسفن الشراعية كأساس لتقييم الرسوم. تم استخدامه أول مرة عام 1849 وأصبح قانونًا بريطانيًا عام 1854.

[2] انظر المعطيات ومصدرها في (الصورة 2).
[3] جريدة La Vanguardia الإسبانية عدد الثلاثاء 24 مايو 1898 ص 3.
[4] Perpiñá García, F. (1907). Biografía del Excmo. é Ilmo. sr. D. José Ferrer-Vidal y Soler. Barcelona
[5] جريدة La Vanguardia عدد السبت 8 يوليو 1905 ص 8.
[6] Diario De Cadiz, Hace 100 Años, 1916 Naufragio del Vapor Quetzal, 20/10/2016.
[7] Diario El Imparcial, Luis López Ballesteros, en un viaje que fue transcrito el miércoles 26 de abril de 1911
[8] Memorias diplomáticas y consulares e informaciones, 1910, N° 232 P14 / N° 250, P6
(*) El Vapor Quetzal Y La Barra De Larache, vidamaritima.com, 09/06/2017







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق