بقلم: عبد الحميد بريري
لا يذكر اسم البلوط
في مدينة العرائش إلا ويقترن بالفكاهة والضحك. كان آخرهم عبد السلام بن علي البلوط
الذي عرفه العرائشيون ب قفشاته وهزله. وقد ذكر صاحب أضواء على ذاكرة العرائش
المفضل التدلاوي، وهو من أبناء المدينة، منهم شخصين الأول محمد بن عبد القادر البلوط
موظف بالديوانة ومن حفظة القرآن الكريم واحمد البلوط وعلي بن عبد القادر البلوط
ضمن أعيان المدينة ووجهائها وزاد لهذا الأخير أنه كان موسيقيا وفكاهيا بمجالس
الملوك وأكابر الدولة (1) وهو المعني بهذه السيرة والمتزامنة
مع عهد السلطان المولى عبد العزيز.
وفي وثائق أرشيف المغرب أشير إليه أنه
خلف احمد ابن سودة في قراءة صحيح البخاري على السلطان المذكور وأشار كذلك إلى
الحرفة التي كان يشغلها من قبل بالديوانة، وقد حدد سبب تسميته بالبلوط لمهام لها مرتبطة
بهذه الأخيرة. وارتباطا بالاسم والمهنة وعلاقتها بالبحر وهو ابن مدينة العرائش،
ذكرت نعيمة هراج التوزاني في تعريف ببعض المصطلحات المستعملة في المراسي في عهد
السلطان المولى الحسن، أن "البلط"، وهي كلمة عجمية، وهو ذلك الربان الذي
كان يقود السفن وتسترشد به للدخول إلى المرسى. ولا زالت هذه الحرفة قائمة إلى اليوم
بمرسى العرائش وتتبع لوزارة التجهيز (2). وكيف لا أن يكون سي علي قد مارس هذه
الوظيفة في مرسى مدينته التي كان يصعب على السفن الرسو فيها إلا بمرشد عارف بأغوار
البحر فأخذ لقبه عنها أو أخذه عن أجداده الذين بدورهم قد مارسوها فورثوها
لأبنائهم.
كما نجد صاحب كتاب "في صحبة
السلطان" الفرنسي ݣابرييل ڤير GABRIEL VEYRE، قد أشار إلى هذه الشخصية وذكر جزءا من حياته في القصر الملكي، فتحدث
عن سبب حظوته بأن أصبح مهرجا للسلطان المولى عبد العزيز لا يفارقه بهزله من بين مجموعة
من المرافقين للسلطان من الأوربيين وغيرهم؛ حيث كان رئيس جوق موسيقي فلفت نظر
السلطان بحركاته وقفشاته فطلب منه مرافقته فلقبه ب"فوراخ"fourach""(فوقاش)"(4) لكثرة استعمال هذا المصطلح والذي
يستعمله الفاسيون ومعناه "متى"(3). واعتبر كابرييل فير أن عادة اتخاذ الملوك
مهرج كانت عادة سارية في أوروبا وذكر أحدهم فليبي الثاني ملك اسبانيا(...)، وبالنسبة
لسلاطين المغرب فأول من اتخذها هو السلطان المولى عبد العزيز صدفة حين وقع نظره
على سي علي البلوط.
ومن إحدى صور هذه الحياة الهزلية التي
سقط فيها البلوط ضحية، أنه ذات يوم وجده السلطان مولاي عبد العزيز راكبا على
دراجته ذات المحرك، فأراد ممازحته فشغل محركها ثم سارت حتى اصطدمت الدراجة بالحائط،
فكاد " فوقاش" أن يجن من هذه المزحة والسلطان يضحك. وفي أخرى
سيجعل البلوط وزير الحربية المنبهي هو موضوع الهزل، وذلك عندما استفسره السلطان عن
عدم الزواج، فأرجع الأمر لعجز وزيره هذا، أن يهديه إحدى إيمائه على سبيل السخرية منه،
فاستدعاه هذا الأخير لاختيار إحداهن ففعل. وفي اليوم الموالي سأله السلطان عبد
العزيز عن الأمة التي وقع اختياره عليها فغير فوقاش ملامح وجهه معبرا عن عدم رضاه
عليها، فزوجه بإحدى إيمائه فبات له زوجتان.
ولن نفي بالوصف الجزئي والتفصيلي لهذه
الصور من حياة الرجل إلا بعرضنا لما كتبه هذا الأجنبي، وهو الذي عايشه، بأسلوب
بليغ بتعريب الأستاذ عبد الرحيم حزل، وإن كان فيه نظر لأنه يصدر عن عقلية لها
خلفية ثقافية أخرى فيها نوع من الانتقاص من الشخصية المغربية والإحساس بالدونية
اتجاهها والعمل على إبراز ضعفها، ككتابة أمثاله من الأجانب الرحالة وغيرهم؛ مع أن
مهمته كانت التصوير الفوتوغرافي وتشغيل الآلات الحديثة أنداك التي كان يشتريها
السلطان؛ عشية الانقضاض على المغرب وفرض الحماية عليه بداية القرن العشرين.
يقول كابرييل فير في شان هذه المشاهد
من حياة البلوط في القصر الملكي، حيث يصور هذا الشخص بما عاينه من شكل جسمه
وملامحه وملبسه والمهام التي شغلها بالقصر قبل أن يشتغل مهرجا يسلي السلطان والسبب
في ذلك واستبدال اسمه بلقب عرف به هناك وذكر ما سجله من مزاحه وهزله (4): {لكن ليس عليكم أن تتصوروا هذا الشخص،
واسمه سي علي بلوط، في صورة قزم أصدف (من تكاد ركبتاه تتماسان) … بل كان بشوش
المحيا أسمر اللون. وكان يعن للسلطان، في بعض الأحيان، أن يراه في ثياب رثة شديدة
التنافر والغرابة: تتألف من نعل على النمط الأوروبي، وأزياء أرسل بها أحد مموني
تجهيزات الجيش لتكون عينة، يطمع بواسطتها في قبول عرضه لتزويد الجيش ببعض الأزياء.
وكان جميل القوام ن متناسق البنية، جسورا يميل إلى الصلافة.
كان، من قبل، رئيسا لفرقة موسيقيين في
مدينة مراكش، كانت تأتي في كل خميس، لتعزف في حضرة السلطان ونسائه، وتسليهم لبعض
الوقت، إذا كان هذا اليوم اشبه بيوم عطلة، يغلق فيه القصر أبوابه في وجه كل أجنبي،
ويتفرغ سيدنا كليا، للأفراح العائلية.
وانتبه مولاي عبد العزيز إلى هذا الرجل،
إما لإعجابه بحركاته، وتقطيبات وجهه، يوم كان يسير جوقه الصغير، أو لأنه آنس بوجهه
وانجذب إليه. ثم كلمه السلطان. فرد عليه ببعض الملح الموفقة، التي أضحكته. وكان
ذلك كافيا. وعليه، فقد تخلى سي علي بلوط عن فرقته، ولبث مقيما في القصر.
وقام السلطان، في البداية، بتغيير اسم
سي علي بلوط، إذا جاز لي القول، وأسماه فوقاش - وهي كلمة تعني: متى؟
والكلمة نفسها، تقال في مدينة مراكش: إمتا؟
وظل السلطان وحاشيته يستعملون هذه الكلمة. ذلك بأن في فاس يقال: فوقاش؟
فلما قدم سي علي إلى هذه المدينة،
وكان كثير السؤال بطبعه، أخذ يفرط في استعمال كلمة فوقاش؟ طرب مولاي عبد العزيز
لذلك، فأسمى مهرجه باسم فوقاش. فما عاد يعرف، منذئذ، بغير هذا الاسم.
وعليه، فقد كان فوقاش
متحررا، على وجه الإجمال، في كلامه حتى عندما يتحدث إلى السلطان. غير أن الاحترام
الواجب على كل مؤمن نحو الشريف، سليل الرسول، كان بمنع هذا المهرج من الإفراط في
ممازحة السلطان، وكثيرا ما كان يلجم دعاباته. ولم يكن يجيز لنفسه، بكل تأكيد، أن
يتلفظ بكل ما يطلب السلطان عند الحاجة.
وأما مولاي عبد العزيز فكان يمازح
مهرجه، في بعض الأحيان، ببعض المزاح القاسي العنيف. ومن قبيل ذلك أنه رآه ذات يوم،
جاثما فوق دراجة ثلاثية العجلات ذات محرك، لم تكن للمهرج أية معرفة بتشغيلها -
لكنه كان مهووسا بتقليد ما كان يرانا نفعل - فقام السلطان بتشغيل الآلة، وأطلق
الرجل والدراجة ليصطدما بسور القصر، لا يهمه من أمرهما أن يلقيا التحطيم في نهاية
ذلك السباق. وإذا المسكين فوقاش تستولي عليه الحيرة، ويجن جنونه، وإذا هو يشرع في
إطلاق صرخات مثيرة للشفقة، ويتوسل إلى السلطان أن يبقي على حياته. لكن القهقهات
التي أطلقها السلطان، من فرط استمتاعه بذلك الموقف المضحك، أعادت الطمأنينة إلى
نفس فوراخ. فقد كان مولاي عبد العزيز إنما أفرط في ذلك المزاح القاسي على غير
عادته
وسنحت لفوراخ فرص
ومناسبات كثيرة ليتدارك ما حدث، فكان يصب جم انتقامه عموما، على أصدقاء السلطان،
إذ لم يكن يجرؤن وهو التابع المحترم لسيده، على مهاجمة هذا السيد نفسه. وأتذكر، في
هذا الصدد، حيلة غاية في الخبث، أوقع فيها المنبهي.
فقد بدأ في التشكي من الوحدة التي
يعيش فيها.
فليس له أمة، ولا امرأة، (هذه الخادم
اللطيفة، لكل من لا يملك خادما). وهو وضع بدأ يثقل عليه.
ثم قال للسلطان كأنما ليختتم كلامه:
لو أن لك، على الأقل، وزيرا للحربية
يكون أكثر كرما، ألم يكن، وهو واسع الثراء، ليشفق علي، ويمنحني امرأة! …
فانطلق مولاي عبد العزيز ضاحكا،
مستمتعا بهذه المزحة.
وكان يجب على سي المنبهي أن يستحسن،
هو الآخر، ذلك الكلام، ويرد عليه بحذق ومهارة. فقد أجاب فوقاش قائلا:
لكن لماذا لم تتكلم من قبل؟ فلتأت
عندي غدا، وسوف أجعلك تختار أمة من بين إمائي.
وبذلك حصل فوقاش على أمته، _ أمته
الأولى، ذلك بأنه سوف لا يتوقف في بداية هذه الطريق الجميلة.
وفي اليوم بعد الموالي، سأل السلطان
مهرجه كيف قضى ليلة زفافه.
فمط فوراخ شفتيه ساخرا، ونظر إلى
سيدنا، ثم إلى المنبهي، وشرع يحكي قصة ضحك لها السلطان حتى كاد يغمى عليه.
ولا أجرؤ على سوق هذه القصة في هذا
المقام، إذ أنني لست متيقنا من أنه سوف لا يقرؤها غير المنحلين والمتهتكين، فلا
أرغب في أن يتملك الخجل مهما كان هينا، أحدا من قرائي. وخلاصة تلك القصة أن سي علي
بلوط اشتكى من الرجل العظيم الذي جاد عليه بتلك الزوجة أنه سبق له أن لقنها عادات
مناقشة للنظام الطبيعي للأشياء، بحيث لن يكون في مقدوره، ما لم يفلح في علاجها من
هذا الانحراف، أن يطمع، أبدا، في أن يكون له منها ولد.
ولم يجد مولاي عبد العزيز بدا من
التفريج عن مهرجه فوراخ. فقد دعاه إلى أن يختار أمة ثانية من بين حريمه الخاص، وهو
أفضل من حريم المنبهي بما لا يقاس. وبذلك أصبح لفوقاش امرأتان، وكانت تلك بدايته
لتكوين حريمه!}
وصف يثبت ما اشتهر عن سي علي البلوط
من الفكاهة والضحك والموسيقى، ويظهر كذلك أنها ليست كل الطرائف التي نقلها لنا
عنه؛ لربما أخفى بعضها وذكر ما يوافق قناعته.
السيد علي بن عبد القادر البلوط
الهوامش
1. أضواء
على ذاكرة العرائش المفضل التدلاوي ط/1 يوليوز2001 الشنتوف ادريس طنجة ص 239،
248، 249 وإطلالة على النغم المغربي الأصيل المفضل التدلاوي ط/1 الشنتوف/ التدلاوي
ابريل 2000 ص: 50.
2. ARCHIVES
MAROCAIN / mision scientifique du maroc volume 18 PARIS ern
est leroux Editeur
1912 p :334.
·
الأمناء بالمغرب في عهد السلطان مولاي
الحسن نعيمة هراج التوزاني.
3. كتبت
بالأحرف اللاتينية fourach في نص الكتاب باللغة الفرنسية؛ مع أن المعنى
المؤدى حسب الكاتب هي متى وبالدارجة المراكشية هي "يمتا". وفي العرائش
ومنطقتها اليوم حيث ولد البلوط وتربى، يقال اليوم فوقاش أو فوياخ أو فيواخ وليس
كما كتبت فوراخ كما نقلت عن كتابتها بالأحرف اللاتينية. فلا نعلم هل تحورت هذه
الكلمة أم الكاتب سمعها خطأ. وتفطن لهذا بعد الكتابات التي تناولت هذا الكتاب وكتب
فوقاش وهو ما سنعتمده عندما سنعرض نص سيرة البلوط لأنه النطق الذي نستعمله إلى الآن.
4. في صحبة
السلطان كابرييل ڤير ترجمة عبدالرحيم حزل ط/1 جذور للنشر الرباط سنة 2003 ص : 63،
64, 65