محمد عزلي
عشت طفولتي في ثمانينيات القرن الماضي بمنزل
أَشبه ببلاد أليس العجائبية، هو في الأصل مدرسة أجنبية من طابقين في مدينة العرائش
المغربية، تحولت بعد استقلال الوطن إلى أربع شقق فسيحة، كان بيتنا يحتل ميمنة
الطابق الأرضي، الغرف كثيرة مختلفة أشكالها وألوانها وأضغاث أحلام لياليها، بينما
يجمعها شكل موحد للنوافذ الخشبية المستطيلة الطويلة الرمادية المثبتة على جدران
عريضة تحول بين أُسرتنا السباعية وبين زمهرير الشتاء وقيظ الصيف، تصطف كل الأبواب
بانتظام وتناسق مدهشين على مسافة الطُرقة الرابطة بين باب البيت وباب الباحة. آه على
تلك الباحة، كانت جنتي وكنت أحسبني خالدا فيها، هي ساحة مفتوحة يتوسطها ملعب كرة
سلة، تنتهي حدود أسوارها عند مستودع من ست غرف بستة أبواب مستقلة عن بعضها، سقفها
قرميدي منحدر على النمط الأمريكي، جُعل أحدها لتربية الدجاج وآخر للتصبين وآخر
لخروف العيد وأهمهم لكلبنا الحارس الأمين، بينما المتبقيين تُرِكا لجارتنا
اليهودية مرسيدس، تلك السيدة العجوز الوحيدة التي لم نعرف لها أهلاً إلا عند
وفاتها، لقد كنت ونيسها ومذَلَّلَها، فكان مسموحا لي ولوج بيتها المظلم على الدوام
من باب الدار كما من باب الباحة المشتركة. تفنّنت والدتي رحمة الله عليها في جعل
الفضاء فردوسا على الأرض، فما أروعها من دالية عنب لذيذ تتدلى عناقيده الخضراء من على
سقف قصبي متقن الصناعة، تكفي مساحة ظلها لرَكن ثلاث حافلات، وإلى جانبها شجرة
"مزاحة ملقمة كروازي" لم أذق ألذ من ثمارها أبدا، نصف غلتها لنا والشطر
الآخر لأبناء الحي المتربصين بها على الدوام حيث أنها تجاور السور القصير المطل
على زنقة طنجة، إضافة إلى أشجار المشمش والخوخ، وأنواع من الأزهار والنباتات
المختلفة أنواعها وألوانها.. لم أكن في حاجة إلى فضاءات الحي لأجل اللعب، بل لم
يكن في الحي فضاءات أبرح وأجمل وأفضل من باحة منزلنا، ولولا خوف أصحابي من كلبنا
الأشقر أليكس، لتحول المكان إلى ما يشبه ساحة مدرسة ابن خلدون الإبتدائية، ومع ذلك
كنت أبدل وسعي لتقديم ضمانات السلامة، وتشجيع الأصدقاء لمشاركتي اللعب في مثل هكذا
فضاء حصري لن يجدو له مثيلا.
وفي الجانب المقابل من البيت، كان لدي مَنفذ
عجائبي على الفانتازيا، كانت وبلا أدنى شك نافذتي السحرية ومكاني المفضل، تطل على
قصر الهيسبيريس حيث سكنت دوكيسا وعائلتها الملكية، تطل على المكان الأكثر جمالا في
مدينتي، لم أملَّ من تكرار المشهد كل يوم من على ناصية النافذة العريضة التي تناسب
كل الأوضاع، شأنها شأن كل نوافذ العمارة الإسبانوموريسكية المميزة للإنسانتشي
الكولونيالي بالعرائش. أما الأوضاع بالنافذة العجيبة فهي ثلاثة:
1. الوقوف: يمكنني من مراقبة القصر أو (فندق الرياض آنذاك) والتدقيق في
تفاصيله، أتابع الشرفة الملكية الفسيحة وبقية النوافذ، ألاحظ باهتمام وأسجل، من
الغائب ومن العائد، كيف تبدو أزياء الحسناوات، كيف يجلسن بالساعات تحت الشمس،
والذكور تحتسي المشروب متظاهرين بتصفح الجرائد، أنتظر كل يوم من سيتجرأ على ملعب
التنس، هل من ثنائي مزدوج، أو حتى طفل يتدرب. أستعجل كل يوم استعراض الطواويس،
يزعجني تأنيها ومسلسل تشويقها، هي لا تُخطِر أحدا بموعد العرض، لكنها تنجح في
استقطاب الانتباه إليها في كل مرة، وتنجح في تشتيت انتباهي بين الاندهاش من
حركاتها وألوانها وأصواتها، وبين مراقبة ردود أفعال مشاهديها من ضيوف دوكيسا أو
نزلاء فندق الرياض.
2. الجلوس: يسمح بمراقبة المرور في شارع سيدي محمد بن عبد الله، كنت أستغله
غالبا لممارسة لعبة غريبة، لعبة إحصاء السيارات، فقد كان لدي دفتر خاص سطرت فيه
جدولا يضم جميع ماركات السيارات، وما إن تمر عربة في الشارع إلا وضعت علامة في
خانة الماركة التي تنتسب إليها، أذكر جيدا أن المنافسة كانت محتدمة بين شركتي رينو
وميرسيديس، وكنت أشعر بغبطة كبيرة كلما انتهى الإحصاء لصالح سيارتي المفضلة
ميرسيديس. موقعي كان مفيدا أيضا من الناحية الاستخباراتية، حيث كان بإمكاني إخطار
والدتي بأي وافد محتمل قبل أن يصل إلى الباب، كما كان يمَكِّنني من صيد بعض
الغنائم من قبيل اعتراض طريق الراهبات اللائي يغدقن على أقراني من الأطفال ببعض
المال [10، 20، أو 50 سنتيم] ، أو تصَيُّد عمي احميدة رحمة الله عليه الذي لم يكن
ليمنح أقل من درهمين وما أدراك ما الدرهمان في أوائل الثمانينات..
3. الاستلقاء: إن قاعدة النافذة العريضة والفسيحة كانت تسمح بافتراش الأغطية
أو "الهيدورة" والتمدد عليها وإراحة رأسي على مخدتي المفضلة من المراقبة
والعد، هذا الوضع مناسب لتأمل السماء وأشجار دوكيسا العالية، سافرت مرارا من هنالك
على أمواج التصوف الطفولي الفطري إلى فانتازيا أحلام اليقظة، لطالما تخيلت أبطال
التنس ماتس ويلاندر، جو ماكينرو، إيفان لندل، مارتينا نافراتيلوفا، كريس إيفرت،
الذين عاينت لقاءاتهم الماراطونية في بطولة رولان غاروس عبر التلفاز بالأبيض
والأسود، فوق الأرضية الحمراء المائلة إلى البرتقالي على ملعب فندق الرياض، كما
سافرت إلى أبعد من ذلك من خلال تخيل اللاعبين القدامى أيام دوكيسا بسراويلهم
الطويلة وألبستهم الفضفاضة "المضحكة"، حَاكَت مخيلتي عشرات الروايات عن
سيدة القصر بخدمها وحشمها وسلطانها دون أن يصل إبداعي إلى حقيقة كونها ملكة فرنسية
منفية..
لست أدري لماذا لم تُنسَج على مسامعي حكاية
دوكيسا من والدتي أو والدي أو حتى جدتي التي روت لي عشرات الحكايات من ربيرتوار
التراث الشعبي وبعض القصص العالمية الشهيرة، جدتي التي شاهدت بأم عينها دخول
المولى الحسن الأول لمدينة العرائش عام [1889م]، وحكت لي المشهد مفصلا غيرما مرة،
جدتي رحمة الله عليها من سافرت بي مرارا عبر أحجياتها الرائعة إلى جزيرة الوقواق وبحر
النيل.. وولجت برفقتها إلى قصور الأميرات والملوك في كل الأزمنة والأماكن باستثناء
الهيسبيريس الذي يقع بالتحديد بين منزلنا قرب شركة التبغ "ريجي طابا" -البناية
التي حملت بدورها ذكريات حبلى بالأخبار والأسرار، بناية كنت أندهش من كونها تصنع
تبغا بلا دخان، وتشغل أناسا لا يحملون بين أصابعهم سيجارة، بناية حملت من أناقة
الإنسانتشي ما جعلها تنضم لنادي [خبر كان]- وبين منزل جدتي في سوق سبتة الذي يمَكِّنني
سطحه من مراقبة الجانب الخلفي للقصر حتى تكتمل الصورة وينتحر الفضول.. تُرِكتُ
هكذا مع هيبة الغموض أسبح بمخيلتي في فضاءات لا سقف لها ولا محضور، تُرِكتُ لأكتشف
بنفسي بعد عقود من الزمن فانتازيا أكثر إبهارا من الخيال، فالدوكيسا اتضح أنها
دوقة زوجة دوق، وأميرة بنت ملك، على رأسها تاج فرنسي مخلوع، وقصة طرزت حروفها في
قصور أوربا قبل أن تحط بالعرائش وترضى، أما الهيسبيريس فلا ينقصه إلا حرف الدال
الذي شفطته دارجة الإسبان زمن الحماية وورثه جيل ما بعد الاستقلال كما هو، اسم قصر
دوكيسا مأخوذ من الهيسبيريديس، جنة التفاح الذهبي بحاضرة ليكسوس التي سعى إليها
هرقل وقاتل من أجلها، ولم يكن لينال تفاحاتها لولا تدخل إله السماء، كما جاء في
الميثولوجيا الإغريقية القديمة.
الكُلًّ جاء إلى مدينتي يسعى أملا، ومدينتي
منحت بسخائها الكُلَّ مُنَاه، وقد ذَكَر التاريخ وسيذكر حتما، من هم أبطالها ومن
الذين باعوا.
قصر دوكيسا [الهيسبيريس]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق